تقوم العلاقات بين الدول على أساس المصلحة، والمصلحة فقط هى التى تحدد توجهات السياسة الخارجية للدول، وعادة ما تبحث الدول عن غلاف أخلاقى، قيمى أو إنسانى تغلف به سياستها الخارجية، وهو توجه قديم فى العلاقات الدولية، وربما كان المثال الأبرز على ذلك استخدام مبررات أخلاقية وإنسانية للاستعمار الأوروبى للشعوب الأخرى، فقد أطلقوا عليه «عبء الرجل الأبيض»، وفحواه أن السياسة الاستعمارية تستهدف الأخذ بيد الشعوب الأخرى، تنميتها والعمل على تحضرها. ولعل إطلاق مسمى «عبء الرجل الأبيض» بما يحمله من مدلولات أخلاقية على سياسة استعمارية هى فى جوهرها سياسة استعباد وتحكم فى شعوب أخرى، ونهب منظم لثروات هذه الشعوب، يكشف حدود الخداع فى إطلاق مثل هذه المسميات، وإلى أى مدى لا توجد ضوابط على استخدام القيم والمعايير الإنسانية والأخلاقية فى تغليف سياسات، هى فى جوهرها مناقضة بل ومعادية للقيم والأخلاق بصفة عامة. وعلى الرغم من حرص الآباء المؤسسين للولايات المتحدة على تكريس القيم الإنسانية فى دستور البلاد، وحرص عدد من الرؤساء الأوائل على اتباع هذه القيم داخليا وخارجيا، فإن ما حدث عمليا هو الإخفاق التام فى وضع أساس قيمى وأخلاقى للسياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية، ومنذ خروج واشنطن على سياسة العزلة التى كانت تفرضها على نفسها بفعل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتحديدا بعد الحرب الثانية التى انتهت عام 1945، وبدء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقى بقيادة موسكو والغربى بقيادة واشنطن، منذ ذلك الوقت كانت ولا تزال السياسة الأمريكية تعمل من منطلق المصلحة البحتة وعلى حساب كل القيم والمعايير الإنسانية، تتحدث كثيرا عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فى حين أن سياستها الخارجية تسير عكس كل هذه القيم، فقد دبرت الانقلاب على مصدق فى إيران، لأنه كان يسير فى سياسة تأميم شركات النفط، وكانت وراء قتل سيلفادور الليندى فى تشيلى، لأنه كان يعمل من أجل مصالح شعبه ويركز على العدالة الاجتماعية، تعاونت مع حكام مستبدين وديكتاتوريين فى شتى أنحاء العالم، لا سيما فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، تعاونت مع تجار مخدرات فى أمريكا الجنوبية والوسطى، تعاونت مع مانويل نورييجا فى بنما، ودعمت حكاما قتلوا عشرات الآلاف من شعوبهم مثل بينوشيه فى تشيلى. تحالفت واشنطن مع عتاة المستبدين من الحكام العسكريين فى مختلف أنحاء العالم، وشاركت فى عمليات قتل لحكام انتخبوا من شعوبهم بطرق ديمقراطية حرة. وفى الزمن الراهن لم تتوقف الولاياتالمتحدة عن رفع الشعارات الإنسانية والأخلاقية، وفى نفس الوقت لم تتوقف عن ارتكاب الجرائم بحق الشعوب الأخرى، فى عام 2003 كذبت على العالم فى الادعاء بوجود أسلحة دمار شامل، وقامت بغزو العراق واحتلاله وتسببت فى مقتل مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء، ومارس جنودها أبشع أنواع التعذيب بحق عراقيين، قتلوا كثيرين بدم بارد، وحرقوا الجثث. نفس الأمر تكرر فى معتقل جوانتانامو على الأراضى الكوبية، الذى خصصته لمعتقلى تنظيم القاعدة. وفى الوقت الذى تنتهك فيه واشنطن حقوق الإنسان غير الأمريكى، وتمارس أبشع أنواع الانتهاكات وعمليات التعذيب، تصدر تقريرا سنويا عن حالة الحريات فى العالم وتعطى درجات لدول العالم المختلفة حسب رؤيتها لمدى احترام هذه الدول للحقوق والحريات. وجاء الرئيس الأسمر باراك أوباما، فواصل مسلسل الكذب والخداع، ومارس سياسات عدائية تجاه شعوب ذنبها أنها دعمت قادتها فى اتباع سياسات مستقلة تحقيقا لمصالح بلادهم. واصل أوباما الحديث عن الحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية، فى وقت كان يبرم فيه اتفاقا مع التنظيم الدولى لجماعة الإخوان، التى لا تؤمن بالقيم الإنسانية، والتى تعد الجماعة الأم لكل التنظيمات والجماعات الإرهابية، كان الاتفاق يتضمن تبادل المنافع على حساب كل القيم الإنسانية. وعندما ثار الشعب المصرى وخرج ما يزيد على 30 مليون مواطن ضد حكم المرشد والجماعة، وأطاح بهذا الحكم، اتخذت واشنطن موقفا عدائيا من ثورة المصريين ببساطة، لأن مصالحها كانت مع الجماعة، وعندما خرج نحو 50 ألف أوكرانى ضد حكم الرئيس الموالى لموسكو اعتبرتها واشنطن ثورة شعبية ودعمت النظام الجديد. إنها المصلحة المباشرة ليس أكثر، وبالتالى لا بد من إدراك هذه الحقيقة، وأن لا ننخدع بالشعارات المرفوعة التى تستخدم القيم والمبادئ كغلاف لسياسات قائمة على المصلحة وساعية إلى تحقيقها.