بعض العبارات يكون لها مظهر براق من ناحية الصياغة، ولكنها لا تصمد- من جهة المحتوى- أمام أى تدقيق. مثال ذلك القول بأن «الدين لا شأن له ببناء الجدار على حدودنا مع غزة قبولا أو رفضا، سلبا أو إيجابا، ولا يحق لرجال الدين أصلا إبداء الرأى. وإنما هى مصالح الدولة يقدرها الساسة طبقا لرؤاهم بلا أى تدخل من جانب الدين». كلام يبدو رائعا وبراقا، ويحقق مفهوم الدولة المدنية، ويبعدنا عن وصاية رجال الدين (وكلها أمور مطلوبة)، ولكن هل هو- من الناحية المنطقية- صحيح؟. أولاً: لا أحد يبدى رأيه فى الجدار كطوب وزلط، وإنما يناقش الغاية من بنائه. فالذين أباحوه (كعلماء مجلس البحوث) هم فى الحقيقة أقروا واجب الدولة فى حماية الأمن القومى، ومنع التسلل والمخدرات. والذين حرموه (كالقرضاوى) هم فى الحقيقة حرّموا المساهمة فى حصار شعب أعزل أمام قوى ظالمة مستبدة. ثانياً: لا يوجد أى نشاط إنسانى- كائنا ما كان- بمعزل عن الأخلاق حتى فى أشد الدول علمانية!. الاختراقات الطبية- مثل تلك المتعلقة بالإنجاب أو زرع الأعضاء- تُناقش أخلاقيا قبل إقرارها طبيا. بل حتى الحروب الاستعمارية احتاجت غطاء أخلاقيا لكى تتم. ذلك أن هناك شيئا عميق الغور فى الفطرة الإنسانية يجعل الإنسان يبحث عن غطاء أخلاقى حتى لو كان أول من يعرف أنه زائف. أمريكا هاجمت العراق لمصالحها الخاصة ولكنها ادعت مبررا أخلاقيا مثل تحرير العراقيين من طغيان صدام، وحماية الأمن العالمى من أسلحة الدمار الشامل. إسرائيل- أكبر قرصان فى التاريخ- تتغنى طيلة الوقت بالإنسانية والسلام. الدول الاستعمارية فى القرن التاسع عشر بررت استعمارها لشعوب آسيا وأفريقيا بأنه عبء الرجل الأبيض فى تعليم الشعوب البدائية الحضارة. إذن فهناك استحالة فى الفصل بين النشاط الإنسانى (أيا كان نوعه) وبين الأخلاق. ثالثاً: إذا كان يباح للأخلاق أن تُساءل وتُحاسب الهدف من بناء الجدار( كما يحق لها أن تساءل وتحاسب أى شىء آخر)، فهل نستطيع أن نحرم الدين من ذلك الحق الأصيل؟، وهل الدين هو أى شىء سوى أخلاق؟. ويبقى السؤال المهم الذى لم يتطرق إليه المقال: ما الهدف من بناء الجدار: حمايتنا أم حصارهم؟.. وما اعتقادك أنت يا عزيزى القارئ؟.