لعل ما يؤرق المجتمعات العربية سلبا أو إيجابا هجرة الملايين من المسيحين فى كثير من البلدان العربية خاصة الذين يمثلون نسبة لا بأس بها من الخليط السكانى حتى أصبحت هذه الهجرة ظاهرة تمثل خطورة على تلك المجتمعات وتمثل شرخا كبيرا فى التركيبة السكانية وتفريغا لعقول هذه الأمة العربية وفى إحصائيات متجددة للأمم المتحدة وبعض المنظمات الدولية ذات الصلة تبين أن هناك أعدادا كبيرة ومخيفة ظلت تزحف من مجتمعات طاردة إلى مجتمعات جاذبة طوال هذه العقود الخمسة الماضية ومازال هذا الزحف قائما إلى اليوم حتى باتت النسبة المتبقية للمسيحيين فى منطقة الشرق العربى والدول الأفريقية العربية تمثل قلقا شديدا، فعلى سبيل المثال وطبقا للنسب الدولية المعلنة فإن دولة مثل فلسطين أصبح المسيحيون الباقون لا يمثلون أكثر من 2%، ففى مدينة بيت لحم مهد ميلاد السيد المسيح وفى القدس، حيث القبر المقدس وكنيسة القيامة لم يتعد تعدادهم أكثر من ثلاثة آلاف مسيحى فى مدينة يقدر مقدار سكانها بحوالى 800 ألف نسمة وفى غزة والتى يقدر مقدار سكانها بأكثر من مليون و نصف لم يعد أكثر أكثر من ألف مسيحى وفى العراق يقدر عدد المسيحيين المتبقين فى جميع أنحاء العراق بحوالى خمسمائة ألف فقط من مقدار دولة يقدر عدد سكانها بنحو ثلاثين مليون عراقى كان بها قبل خمسة عقود أكثر من ثلاثة مليون مسيحى وفى بلد مثل مصر يقدر عدد سكان المسيحيين بحوالى 10% من نسبة السكان أى حوالى ثمانية مليون مسيحى وهذه النسبة مغلوطة طبعا لأنها معطاه للأمم المتحدة ومعلنة من الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء بمصر دون أسس معيارية لتعداد المسيحيين إذ أن النسبة المعلنة من الكنيسة وهى الجهة الأقدر على مقدار المسيحيين كصورة افتقادية تقدر عدد المسيحيين طبقا لتعداد المسيحيين بحوالى 15 مليون مسيحى وفى الأردن يقدر عدد المسيحيين بحوالى مائة وخمسين ألف فقط وفى لبنان والتى كانت تعرف بالدولة المارونية تقدر عدد المسيحين بحوال 34% من عدد السكان أى حوالى 700 ألف مسيحى من عدد السكان الذى يقدر بحوالى مليونى ونصف لبنانى فى المقابل يوجد ضعف سكان الدولة اللبنانية أو يزيد من المسيحين الموارنة فى البرازيل والأرجنتين وأمريكا بما يقارب أكثر من سبعة ملايين لبنانى مسيحى هاجروا إلى الغرب. ولعل المتأمل فى ظاهرة نزوح المسيحيين إلى الغرب يبدو له لأول وهلة أن السبب فى ذلك هى العوامل الاقتصادية فى ظل مستوى الفقر المتفشى فى معظم دول العالم العربى باستثناء دول النفط وهذه بالطبع يندر تواجد المسيحيين فيها طبقا لأنظمة دينية وعلى سبيل المثال السعودية فلا تسمح بالمواطنة على أراضيها إلا لمن هم مسلمون فقط وناهيك عن دول النفط فلعلنا إذ أمعنا النظر جيدا فى هجرة المسيحيين إلى دول الغرب لا يمكن أن نحسب الأمور بمعيار اقتصادى بحيث إن كثيرا من الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الخيرات والعقول المتميزة لن يكونوا فى حاجة إلى أموال بل كانت لهم ثروات وإمكانات بارزة ومع ذلك اثروا الهجرة إلى الخارج و لعل أكبر دليل على ذلك من مصر العالم وطبيب القلب العالمى المشهور البروفسيور مجدى يعقوب ولا داعى لسرد قصته وما هى الدوافع لتركه مصر بعد تفوقه وتخرجه من كلية طب القصر العينى وما وصفه آنذاك أحد المسئولين الطبيين الحاليين بوصفات دونية ثم نراه الآن ومصر فى حاجة إليه فلم يخيب شيم الآباء الأصلاء ورغم أنه تراه يعود إلى مصر من حين لآخر ليجرى كبرى عمليات فى القلب للأطفال فهذه صورة حية لتؤكد أن الواقع فى الهجرة لم تكن وراء عامل الفقر أو سعيا وراء تحقيق الشهرة أو مكاسب مالية أعرف أيضا طبيبا حائزا على تخصصا مرموقا فى القلب أيضا ورغم أنه لم يكمل معادلته فقد أثر فى أمريكا أن يعمل فى محطة بنزين ولم يعد إلى بلده حتى حصل على المعادلة وأن كثيرا من أصحاب الصيدليات المشهورة تركوا البلاد أيضا ولم يكونوا فى حاجة إلى مال يؤمن لهم حياتهم حتى إذا ذهبت إلى سفارة أستراليا أو كندا أو أمريكا تجد أن الآلاف من الأطباء وصيادلة فى سباق مع الزمن فى الحصول على المعادلة للهجرة إلى تلك البلاد رغم أنهم فى إمكانهم العمل فى مستشفيات أو فتح صيدليات فى بلدانهم. لكن يبدو أن الأمر أصبح فى هجرة هؤلاء وخاصة من الشباب منهم أصبح ملحا على قاعدة وطاولة البحث ولعل أولى عوامل الطرد سلبا أو إيجابا هو شعور المسيحيين بأن عنصر الأمانة والمواطنة قد بدأ فى التلاشى منذ حقبة ليست بقليلة أى منذ ما يقرب من أربعة عقود أو يزيد عندما يشعر المسيحى بأنه فى بلده وهو جزء من نسيجه قد لا يأمن فى وظيفة يستحقها أو مركز يطمح فيه ويفتقده لا لشئ إلا لهويته الدينية وعندما يرى أن هناك اعتداءات على الكنائس وعلى المصلين وعندما يرى أيضا أن هناك تمييزا واضحا فى كثير من الممارسات الحياتية وعندما يرى أنه مواطن من الدرجة الثانية لا تقبل شهادته والشاب المسيحى عندما يستخرج بطاقة الرقم القومى بأن اسمه قد تغير بقوة القانون المصرى وهو لا يعرف شيئا عن ذلك ولا يرغب فيه لا لشئ إلا لأن أبوه وهو صغير قد أسلم وعندما يشعر وهو صغير فى حضن أمه أن أمه تتنقل من مكان إلى مكان خشية نزعه من حضنها وتسليمه لزوجة أبيه الذى أشهر إسلامه عندما يرى أن ديانته تهان ويوصف الكتاب المقدس بالمكدس وبالمحرف عندما يشعر وهو يصلى أنه مهدد بالقتل وأن آلاف المتشددين يهجمون على الكنيسة بحجة أنه ليس لها ترخيصات للصلاة وعندما يرى سكوت الجهات الدينية العليا من إبداء رأيها بتحريم هذا الهجوم والتخويف و الإتلاف والتخريب. ألا يكفى ذلك لشعوره لعدم الأمن والآمان وأنه بدلا من أن يعيش مواطنة منقوصة يذهب إلى كورة بعيدة حتى وإن كانت رحلة محفوفة بالآلام لكنها محققة الآمال. لكن بطبيعة الحال لا ننكر أن للدوافع الاقتصادية عامل هام والدليل على ذلك أن كثيرا من المسلمين أيضا يهاجرون إلى الخارج حتى تكونوا منصفين فى القول، لكن يظل لدافع التميز الفرز الدينى فى يقيننا هو الدافع والمعول الأول لهجرة ملايين من مسيحيو الشرق إلى الغرب. التداعيات والنتائج لكن يبدو وأن الأمر ليس سهلا وليس مجرد سرد أحداث وإحصائيات وعوامل طاردة أو جاذبة أو دوافع فشل أو نجاح ولكن يبدو أن الأمر أكثر من هذا بكثير أذ أن على ذوى الأمر أن ينظروا إلى هجرة المسيحيين نظرة شاملة ومتأنين وفاحصين ومتأملين خطورة هذا الوضع والمتمثل فى الآتى:- 1- تفريغ الوطن من فلذة شبابه 2- الإخلال بالتركيبة المجتمعية والسكانية 3- انحسار الانتماء عن المهاجرين إلى الخارج وشعور كثير منهم بالإحباط شئنا أم أبينا 4- اتساع ظاهرة الأقليات فى العالم العربى مما يشكل خطورة بما يشعرون به من جانب الأغلبية وخاصة الأغلبية الدينية 5- تنامى أصحاب الفكر الأصولى لخلو الساحة من كثير من المفكرين والباحثين 6- من المحتمل بل من المؤكد أن يكون هناك ارتباط قوى من الأقلية المتبقين والأعداد الكبيرة فى الغرب 7- وجود لوبى قوى لهؤلاء المهاجرين للدفاع عن أقليتهم المتبقية من خلال مفهوم المواطنة وهذا من حقهم 8- عمل هؤلاء المهاجرين على تواجد شرعى وتمثيل قانونى فى تلك البلدان مما يساعدهم على اتخاذ قرارات أكثر تأثيرا 9- زيادة الفجوة بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية والأقلية المسيحية أن شئنا التعبير بحسبان بالخطأ أن المهاجرين بالعرب يساعدونهم ولم تفهم الأغلبية لأسباب الطارد و لهؤلاء وأن المساعدة ليست مساعدة دينية وإنما العمل على اكتمال المواطنة لهم 10- خلق أجيال أو إن شئنا جيل ثالث من مسيحيى الشرق فى الخارج متأثرين بنفس هذا الشعور مما يفقدهم الانتماء والحنين إلى بلدانهم الأصلية.