برغم خفته كالفراشات، إلا أن "محمود مرسي" لم تجذبه الاضواء قط، يبتعد عنها كخفاش ليلي يأتنس بالظلام حيث يفضل العزلة، ولا يؤمن إلا بما يراه فقط، يصدر أحكامه على الفيلم الذي يأتي له نصه، ولا يوافق أن يذهب له إلا لو كان مكتوبًا باحترافية، ويحمل رسالة فنية. "محمود مرسي" هو ذلك الصبي الذي ولد في مثل هذا اليوم السابع من يوينو لعام 1923، لتمر السنوات ويلتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة الإسكندرية. لم تمر الكلمات في سنوات الدراسة الاربع جزافًا على ذلك العقل المتمرد، فمحمود مرسي، أخذ من الفلسفة أسلوبًا للحياة لم يتنازل عنه ولم يغيرها من أجل رغد العيش، بل كان لمرسي "دماغ صعيدي" برغم أنه ولد بالإسكندرية. حيث يعمل مدرسًا، ولكنه يكتشف أن تلك ليست المهنة التي يبحث فيها عن نفسه، لا يجد فيها شغفه، فيسافر إلى فرنسا لدراسة الإخراج السينمائي خمسة سنوات ينتهي فيها ماله. يذهب مرسي إلى لندن، ليبدأ عمله في إذاعة "بي بي سي" وبرغم كونها إذاعة عريقة، إلا أن العدوان الثلاثي على مصر، كان له الأثر أن يترك مرسي كل هذا ويعود إلى بلده خالي الوفاض والبال، لا يشعر بعبء على قلبه، ولا تنازل يخل بمبادئه. ومن ثم يلتحق مرسي بالإذاعة المصرية، حيث يعمل مخرجًا هناك، ومن بعدها مخرجًا للتليفزيون، ومدرسًا بالمعهد العالي للفنون المسرحية. كل هذا ولا يبدو لمحمد مرسي أن هناك مستقبل ما يتعلق بالتمثيل. فالفتى لم يعد فتي، والرجل الاربعيني، يبدو أنه قد وجد في الإخراج ضالته التي حاز فيه على مناصب جيدة، ولكن فيلم "الهارب" في 62 يصبح محطة القطار التي يدرك فيها مرسي، والعاملون بالسينما أنهم قد وجدوا بطلًا جديدًا يمكن أن يتحرك بخفة الفراشات بين الحقول المزدهرة، باحثة عن الزهرة المناسبة، فبرغم أعماله القليلة إلا أن الفنان الكبير ترك بصمة واضحة، حيث الكمال في تقديم أعماله. لا يمكنك أن تشير بإصبعك حيث تقول لم يكن يجب أن يظهر. لتظل اعمال مرسي الخمسين هي أفضل ما قدم للسينما والتليفزيون سواء الصادرة عن الروايات مثل "السمان والخريف، والشحات، وثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ، أو تلك التي أخرجها كبار المخرجين مثل أغنية على الممر إخراج على عبد الخالق، أو كمال الشيخ في "الليلة الأخيرة، و ثمن الحرية" لم ينس كذلك المسلسلات، والتي كان أهمها على الإطلاق مسلسل "أبو العلا البشري" أيقونة جيل التسعينات، الذي ساهم فيه بروح "دون كيخوته" في خلق أجيال لازالت تحلم بالمثالية وعالم نقي. لم يسع "محمود مرسي" إلى الجوائز والتكريمات، بل ورفضها؛ لأنه رأى أن الجوائز ليست من حق الممثل، فهو مجرد مؤدي للنص الذي كتبه المؤلف، ورآه المخرج، ومن هنا رفض أن يتسلم جائزة الدولة التقدرية عام 2000 لتغير الجائزة، وتصبح تتويجًا لمشواره الفني فيقبلها مرسي. كرمته أيضًا وزارة الثقافة عن جهوده كأستاذ في معهد السينما، وحصل على جوائز عن دوره في فيلمي "الليلة الأخيرة، وشئ من الخوف" تزوج مرسي من سيدة المسرح "سميحة أيوب" ليرزقوا بابنهم الوحيد "علاء مرسي" الطبيب النفسي، ولكن هناك ما كان مفقودًا لينتهي ذلك الزواج بعد سنوات قليلة، ويبقى مرسي وحيدًا ما تبقى له من عمر، أي حتى الثمانين من عمره، حينها يستعد مرسي للموت، فيكتب نعيه بنفسه، ويقرر ألا يذاع خبر وفاته إلا بعد دفنه، فحتى في موته فضل الممثل الراحل، أن يصبح كل شئ هادئًا بعيدًا عن الأضواء والصخب.