قد يتغير وجه الديكتاتور والظالم على مع اختلاف العصور والأزمنة، ولكن يظل محمود مرسي، هو أكثر من استطاع تجسيد تلك الشخصية في السينما المصرية. رحل طائر الليل الحزين، وعملاق الفن العربي، وعتريس السينما المصرية محمود مرسي، عن عالمنا في 24 من أبريل 2004، تاركاً لذاكرة الفن ثروة كبيرة من الإبداع. رغم كونه خجولا إلا انه قدم دور الدكتاتور ببراعة، فنجده أستطاع أن يقنعنا أنه رمز للشر في فيلم شيء من الخوف عندما قام بدور عتريس. كتب نعيه لنفسه في هدوء وصمت فتح الباب مستقبلاً القِبلة مستعداً للرحلة الأبدية تاركاً خلفه الدنيا التي زهدها، ليكون نعيه الذي كتبه بنفسه، ذاكراً فيه أسماء أقرب الناس إليه، هو آخر شيء حرص على أن يتركه. وبناء على وصيته طلب دفنه بالإسكندرية بمقابر أسرته، وألا يذاع الخبر إلا بعد الدفن، ليفاجأ أهل الفن والجماهير أن عملاقهم المفضّل قد مات ودُفن دون أن يعلم عن صراعه مع المرض أو موته أي شخص إلا بعد أن واراه الثرى. نشأته محمود مرسي محمد، ابن مدينة الإسكندرية الذي أحلّ ضيفاً على أرضها في السابع من يونيو عام 1923، لينشأ في جو أسري صعب لا يقل عن طقس البلد المتغيّر، فتشكّلت شخصيته المتقلّبة كتقلّب موج البحر، حاملاً في أعماقه الرحمة والعطف والحب، غير أنه تطل من عينيه قسوة الصخر، ومن نبرة صوته هزيم الرعد. ألحقه والده بالمدرسة الثانوية الإيطالية بالإسكندرية قسم داخلي وبالرغم من انفصال والدته عن والدة فقد اعتادت الأم أن تزوره يومين في الأسبوع، ليتعلّم في وحدته وانطوائيته التي لازمته طوال سنوات عمره، دروس الحياة التي علّمها إياه الزمن، وهجر الأهل بخلاف عقدة "الفاشية" والعنصرية التي لامسها مع احتقار المدرسة والمدرسين "الطليان" للطلاب المصريين. كل هذا شكّل لدى الصبي محمود مرسي فلسفة خاصة ذات طبيعة عملية ترسّخت في ذهنه، وهو يستخلصها من جنبات الدهر لم يتعلمها من كتب، ولم يقرأ عنها في المراجع، فباتت الفلسفة تجري في دمه حتى أنه التحق بعد تخرّجه في المدرسة الثانوية، بكلية الآداب جامعة الإسكندرية قسم الفلسفة، ليعيش أغلب أوقاته بعيداً عن التعامل مع الآخرين. التحق بمهنة التدريس المقدسة في إعداد وتأهيل النشء، إلا أنه شعر أن بداخله طاقة أكبر من مجرد التدريس لعشرات الطلاب، وأن لديه رسالة يتمنّى لو يوصّلها لملايين الجموع، فما وجد خيراً من الفن كرسول مخلص، ينتقل بين النفوس والوجدان حاملاً رسالته الأمينة عبر الشعوب، دون أن تعوقه جغرافياً الحدود، ولا فوارق اللغات والثقافات، فعرف بعد أن توصّل لهذه الإجابة واجهته التي سيرحل إليها في رحلته الجديدة. بداية الرحلة الفنية من باريس إلى "B.B.C" انتبه الشاب محمود مرسي لرغبته الشديدة في خوض رحلة الفن منذ أن كان طفلاً صغيراً وبالفعل حزم محمود مرسي حقائبه بعد وفاة والده، ليبيع ميراثه كاملاً، ويسافر إلى "باريس"، ليتعلّم فن الإخراج السينمائي في معهد "الإيديك" ، على نفقته الخاصة. فأضطر لأن يعمل، بعد أن تخبّطت به الأحوال حتى استقر به المقام مذيعاً في القسم العربي بالإذاعة الفرنسية، وما كاد يستقر بها، وينظم وقته بين العمل والدراسة حتى فوجئ أن عليه أن يغادر "باريس" مطروداً، إذ قررت السلطات الفرنسية الانتقام لقرار الرئيس عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، وطرد الخبراء الفرنسيين، بقرار مماثل يطرد المصريين من "فرنسا"، فغادرها حاملاً في عقله الفكر والعلم الفرنسي، وبين ضلوعه وأحشائه جرح الطرد والعنصرية. من هنا حمل محمود مرسي حقائبه ليستقر به المقام في لندن، وبعد جهد استطاع أن يلتحق بالقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية "B. B. C"، وبعد سبعة شهور من تعيينه بمساعدة صديقه القديم زكي العشماوي الذي كان قد سبقه إليها، وللمرة الثانية يجد نفسه يحزم حقائبه ويعود إلى "القاهرة" اختيارياً هذه المرة، وإن شئت الدقة احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بقيادة "بريطانيا". ما كان في إمكانه ولا أخلاقه أن يعيش في حِمى دولة ويتقاضى منها أموالاً، في وقت تقوم طائرتها بقصف وهدم وذبح أهله في "مصر"، لذا قدّم محمود مرسي استقالته، وعاد ليعمل - بقرار من عبد الناصر مكافأة له على موقفه الوطني- مخرجاً ومذيعاً في البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية، ليقدّم من خلاله برنامجا فنية وثقافية، وقدّم خصوصاً برنامجاً مميزاً عن المسرح العالمي، مشدداً على أهمية تطوير التذوق الفني لدى جمهور المستمعين، ليُقدّم روائع الأدب العالمي إلى الجمهور الذي ارتقى ذوقه، واتسعت رؤيته نحو أفاق أوسع من الفكر الإنساني القادم إليه من شتى الحضارات والثقافات. يوسف شاهين نبّه مرسي إلى أهمية وقوفه أمام الكاميرا وليس خلفها واحترف محمود مرسي الإخراج الإذاعي عقب إتمام فترة عمله بالبرنامج الثاني، وفي صيف عام 1957 عرض عليه المخرج العالمي يوسف شاهين العمل في فيلم "باب الحديد"، بعد أن لمس في أعماقه موهبة خفية في حاجة لمن يفجرها، ونبهه إلى أهمية وقوفه أمام الكاميرا وليس خلفها، فملامحه، ووجهه، وقدراته الهائلة على التعبير، والإحساس الصادق العميق الذي يملأ صوته، وما يملكه من حضور، ومقدرة على جذب السامع كلها مؤهلات تؤهله إلى أن يُصبح نجماً سينمائياً، وعرض شاهين عليه وقتها أن يكون أجره 50 جنيهاً، إلا أن محمود مرسي رفض هذا العرض، شاعراً في نفسه أنه لم يكتمل البنيان والتأسيس بعد.. فلم يكن هدفه الدخول كفرد يضاف إلى الأفراد، وإنما موهوب يصنع بموهبته الفوارق. ومع بداية الإرسال التليفزيوني في مطلع الستينيات، سافر محمود مرسي إلى "ايطاليا" في بعثة قصيرة لدراسة الإخراج التليفزيوني باستوديوهات "روما"، كما مارس الإخراج المسرحي، ليشارك بعد عودته إلى وطنه الحبيب "مصر"، بالتدريس في معهدي السينما والفنون المسرحية، ويواصل عمله بمجال الإخراج، مكتسباً بعمله الخبرات والتجارب المفيدة، حتى شعر في داخله أنه آن الأوان ليخرج المارد من عقاله وينطلق في سماء النجومية والمجد دون أن يملك أو يجرؤ على إيقافه أحد. وبدأت الرسالة الحقيقية في عام 1962 عرض المخرج السينمائي نيازي مصطفى على محمود مرسي المشاركة في بطولة فيلم "الهارب" مقابل 300 جنيه، وقَبِل مرسي الذي أصبح زوجاً للفنانة سميحة أيوب التي كانت بدأت تشق طريقها بقوة نحو النجومية، وكان هو أستاذها في معهد التمثيل، وأراد أن يُثبت لها أن التلميذة لن تتفوّق على أستاذها، فجاءت موافقته على الدور رغم كم الشر المليء به، وكان يظن وقتها أنها المرة الأولى والأخيرة التي يُقدّم فيها دور الشرير، دون أن يدري أنه سيصبح نموذجاً جديداً للشرير على شاشة السينما، خاصة أن هذا الدور أصبح مثار أحاديث الصحفيين والنقاد الذين أشادوا بموهبة صاحبه، وذوبانه في الشخصية التي أدّاها بشكل ساحر ينمّ عن ميلاد فنان عبقري. وبعد دوره في "الهارب"، وفي العام التالي سنة 1963، قفز محمود مرسي نحو مرحلة البطولة ليصبح بطلاً أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وأحمد مظهر وشويكار وحسن يوسف وصالح سليم في فيلمي "الليلة الأخيرة" و"الباب المفتوح"، ليبدأ العملاق في التمهيد لمسيرته الفنية بشخصيات متناقضة قدّمها جميعها باقتدار وأستاذية عالية، لينافس على صدارة القائمة الذهبية التي تضم أسماء في حجم ومكانة محمود المليجي، زكي رستم، عبد الوارث عسر، حسين رياض، ويحيى شاهين، إلى آخر تلك الأسماء الرنانة، التي أوتيت موهبة استثنائية في فن التمثيل والتشخيص، فقدّم لأسطورة القصة العربية نجيب محفوظ عدداً من الأفلام؛ أهمها: "السمان والخريف"، "الشحات"، و"ثرثرة فوق النيل"، بخلاف أدواره العبقرية في: "ليل وقضبان"، "زوجتي والكلب"، "امرأة عاشقة" و"أمواج بلا شاطئ"، "سعد اليتيم"، "التلاقي"، "أمير الدهاء"، و"حد السيف"، كما كان له نصيب في بطولة الأفلام الدينية منها "فجر الإسلام"، ونصيب في الأعمال الوطنية أهمها أغنية على الممر"، "أبناء الصمت"، و"طائر الليل الحزين"، لتشكل أفلامه خريطة ترصد التحوّلات الاجتماعية والسياسية في مصر، وذاكرة تاريخية ودينية، ونقطة تلاقي بينه وبين مختلف أجيال الفنانين الذين شاركهم العمل.. أهم أعمالة يبقى دور "عتريس" الذي أدّاه في فيلم "شيء من الخوف" هو الأشهر في تاريخه. بما استند عليه من رواية أدبية للكاتب ثروت أباظة، كتب لها السيناريو صبري عزت، وتولّى الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي صياغة حوار الفيلم وأشعاره التي لحنها باقتدار بليغ حمدي، وغنّتها بطلة الفيلم شادية، وشاركها البطولة عدد من ألمح وألمع نجوم السينما يومها: يحيى شاهين، سميرة محسن، ومحمد توفيق، وصلاح نظمي، والوجه الجديد محمود ياسين، وكان عرضه الأول في 3 فبراير عام 1969، إذ كان الفيلم مليئاً بالإسقاطات السياسية الواضحة، والتي كانت تُجسّد موقف كاتب الرواية ثروت أباظة من الثورة وقادتها، وهو موقف معارض، ولسان حال باشاوات العصر الملكي وإقطاعيه، والذين رأوا في الثورة مجرد انقلاب عسكري على الشرعية والديمقراطية، وهو ما عبّرت عنه أحداث الفيلم بوضوح، وأشارت إلى أن هناك حالة سطو قام بها الضباط الأحرار، وذهب الفيلم إلى بيت عبد الناصر ليحكم عليه بنفسه، وعلى شاشة العرض المنزلية شاهده، وتأمله، وقال بعدها قولته المشهورة: "والله لو إحنا كده، نبقى نستاهل الحرق" في إشارة منه إلى أن الفيلم جرى تحميله بمعانٍ لا يحتملها، ولا يمكن أن يتصوّر أن يكون هو عتريساً، وكان موقف عبد الناصر بمثابة ضوء أخضر لعرض الفيلم. في الثمانينيات أدرك مرسي أن السينما لم تعد تصلح له، فاتّجه إلى التليفزيون في أوائل الثمانينيات أدرك محمود مرسي بحسه الصادق أن السينما الجديدة لم تعد تصلح له، ولا هو يصلح لها، فاتخذ قراره بالاتجاه إلى الدراما التليفزيونية التي كان الأداء فيها يشبه الأداء المسرحي، فوضع أسس الإلقاء الدرامي، مستنداً لتاريخه كرجل أكاديمي درس الفن في أشعر العواصم العالمية، بالإضافة إلى موهبته الفطرية، ليضع كل خبرته ورصيده وتجاربه، خاصة مع حُسن اختياراته لأدواره وأعماله، التي تكاد جميعها تكون من أنجح ما قدّمت الدراما المصرية في ربع قرن الأخير، يكفي أن نذكر أدواره في: "أبو العلا البشري"، و"العائلة"، و"الثلاثية"، و"الرجل والحصان"، و"عصفور النار"، وآخرها "بنات أفكاري". فقد كان أداؤه المشحون بالصدق والعفوية والتعبير والإقناع يجعل منه ماركة مسجلة غير قابلة للتقليد أو الاستنساخ، ولم يبالغ الكاتب والسيناريست أسامة أنو عكاشة كثيراً عندما وصفه بأنه أهم ممثل مصري في القرن العشرين. بعيداً عن الفن عاش محمود مرسي حياته عازفاً عن الأضواء، وطوال مشواره الذي يزيد على نصف قرن لا تجد له حواراً صحافياً أو برنامجاً تليفزيونياً إلا فيما ندر، فلا يكاد جمهوره يعرف عن حياته الخاصة سوى زواجه من الفنانة سميحة أيوب، وبعدها عاش راهباً، كل جهده مسخر لهدف واحد وحيد هو فنه، ولم يكن الأمر تعالياً على الصحافة والإعلام، بل هو كما فسّره مرة نوع من الترفع والزهد، بالإضافة لعدم رضائه عن مستوى الصحافة الفنية، فلا يستطيع أن يُجبر نفسه على الجلوس إليها لتسأله عن ألوانه المفضلة، وأكلاته الخاصة، ومعاكسات معجباته، ولذلك يُفضّل أن تكون علاقته بالإعلام قاصرة على نقد أعماله، فقط لا غير. نهاية المطاف وفي الرابع والعشرين من إبريل 2004، رحل الفنان محمود مرسي يوم السبت عن عمر يناهز 81 عاماً، تاركاً لذاكرة الفن ثروة كبيرة من الإبداع؛ حيث انتهت آخر فصول حياته بعد أن داهمته أزمة قلبية في منزله بمدينة الإسكندريةمسقط رأسه، بينما كان مشغولاً بتصوير مشاهده بالمسلسل التليفزيوني "وهج الصيف".. ورغم عدم سعيه وراء الجوائز أو التكريمات طوال مشواره، فإنه حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2000 تتويجاً لمشواره الفني الطويل، كما حصل على جوائز التمثيل الأولى عن دوره في فيلم "الليلة الأخيرة" في مسابقة الدولة عام 1964، وجائزة أحسن ممثل في نفس المسابقة عام 1969 عن دوره في فيلم " شيء من الخوف"، وتم تكريمه في مهرجان الفيلم الروائي عام 1998، كما كرّمه مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان الإذاعة والتليفزيون، وحصل أيضاً على جوائز التكريم والتفوّق عن أعمال منها: "أغنية على الممر"، "السمان والخريف"، "الشحات"، وكرّمته وزارة الثقافة عن جهوده كأستاذ لمادة الإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية. هذا هو محمود مرسي.. الفارس الذي اختفى عن سهرات الفن.. وكان أستاذاً في الفن.. رفض أن يدخل سباق النجومية الساذج.. وهو سيد النجوم بلا منازع.. عاش هادئاً منعزلاً، واسمه يدوي مثل الطبل وأعماله خارج المنافسة، إنه رجل المعادلات الصعبة.. في زمن الاستسهال والابتذال.