· سطوة سائقي الميكروباص تكشف ترهل سلطة القانون · لو قلت كلمة «القانون» أمام المواطن أو السائق فسوف يفكر طويلا قبل أن يسأل «القانون أين ومتي سمعت هذه الكلمة؟!» · الشارع في أي مكان في العالم لايحتمل إلا أحد أمرين.. البلطجة أو القانون إذا كنت من مستخدمي الميكروباص فأنت بالطبع تحفظ أسماء قبضايات القاهرة الذين أصبح وجودهم جزءا من معالم الميادين، وهم يذكرونك بالفتوات أو صبيان فتوات لاتعلمهم في مرحلة ما قبل الدولة في نهاية القرن التاسع عشر حتي إذا حاولت الدولة أن تتدخل وتفرض قانوناً شكليا فإن قوانين هؤلاء الفتوات تظل سارية كقوة موازية أو قاهرة فوق القانون العام. قبل سنوات كان في كل ميدان فتوات يحصلون «الكارتة» وهي رسم يفرض علي كل سيارة قبل انطلاقها لتغذيب المواطنين، وكان هؤلاء «يضربون» دفاتر أو يحصلون علي أموال لايوردونها إلي الدولة، التي رأت أن تقوم بتحصيل الرسوم مقدماً من المنبع ولكنها لم تلغ دور الفتوات بل تركتهم يواصلون دورهم القديم بتحصيل جنيه أوجنيهين من كل سائق في كل رحلة والسائقون يدفعون هذه الرسوم طواعية وبعضهم يتأفف وآخرون يقولون إن هؤلاء البلطجية ينظمون «الدور» ويمنحون الاحتكاك بين السائقين مع أنه ليس أكثر من الزيت الذي يمنع هذا الاحتكاك الوهمي، وآخرون يقولون إنهم «مندبون» عن رجال شرطة يقومون بحمايتهم والاقتسام معهم واسألوا رجلا اسمه حربي، لأن حمدي عبدالرحيم قبل أن يفتح الله عليه كان ينطلق من أول الخط إلي حيث يقرر السائق، من ميدان التحرير إلي شارع فيصل فلم يشر في كتابه الميكروباصي التقدمي الي «حربي» الكائن بميدان «الكوبري الخشب» أمام محطة مترو البحوث. في البداية بداية الخلق كان الركاب قليلين وكان حربي يتولي مهمة الإعلان عن خط سير السيارة، وارشاد الناس إلي السيارة التي عليها الدور ومع زيادة عدد الخلق ووقوفهم ينظرون كيف يبني المجد والزحام فلم يعد الناس ولا السائقون بحاجة إلي مهام «حربي» فما إن تصل سيارة حتي يتزاحم عليها الناس ولايكون أمام السائق إلا أن يمارس الدلال ويقول: «إيه ده هتكسروها مش طالع» فيتحايل عليه حربي ويمد يديه إلي علبة المناديل بالسيارة ينشف عرقه ويطلب حربي من نصف جنيه زاد الآن إلي جنيه أو جنيه ونصف الجنيه عن كل نوبة توقف عند الكوبري الخشب، المبلغ الذي يدفعه السائق رغماً ، يكون من لحم الحي.. من الراكب نفسه، وقد تطور العرف بين الركاب والسائقين إلي مستوي أكثر من قانون الدولة نفسه، فحين كانت الأجرة الرسمية 75 قرشا، رفعها السائقون إلي جنيه وبعد أن ارتفعت رسميا إلي جنيه رفعها السائقون تلقائينا وبرضا الركاب إلي 125 قرشا ويعلم كل رجال الشرطة وموظفو الحي أن اللوحة الملصقة علي الزجاج الأمامي للسيارة بلا قيمة وأن وجودها الوهمي إهانة لشرطة المرور وللمحافظة ولهيبة الدولة التي تكتسب من احترم القانون. لو قلت كلمة «القانون» أمام المواطن أو السائق فسوف يفكر طويلا قبل أن يسأل «القانون أين ومتي سمعت هذه الكلمة؟!» إذ لايحتمل الشارع في أي مكان بالعالم إلا أحد أمرين: القانون أو البلطجة، الدولة أو العشوائية والفوضي في الدول التي يبسط القانون مظلته علي الناس لاتجد بلطجيا ولا «حربي» في الشارع ولا يوجد أيضا جندي مرور ولا مطب صناعي فقط لوحات ارشادية تحدد أقصي سرعة للسير، واشارات ضوئية ولا حاجة لوجود الشرطة أو البطلجية لأن الدولة موجودة والشارع والقانون لا يسمح بوجود شئ آخر. أما هنا فيأخذ المتضرر حقه سبابا وشتائم وشجاراً لأن القانون في اجازة والدولة لم يأت دورها بعد ويلجأ الطرفان إلي محكم أهلي عابر متطوع فيدفع المخطئ تعويضا جزئيا وهذا دليل كاف علي أننا في مرحلة ما قبل الدولة مرة في شارع فيصل أن كنت متوقفاً تماما في منطقة «الطوابق» ، ويزداد وأمامي سيارة احتفظ بيني وبينها بمسافة لتفادي الاصطدام واشارات بالضبط أمام كشك شرطة المرور وبجانبي ضابط برتبة رائد وحوله ضباط وأمناء شرطة فإذا بأحمق يرتطم بي من الخلف وحالت المسافة الامامية دون الاصطادم بالسيارة التي أمامي فماذا فعل الضابط المحترم؟ الضابط ترك الاحمق وطمأنني بأن المسألة «بسيطة» ولم يتخذ إجراء وانطلق الاحمق دون اعتذار عما سببه من تلف «غياب القانون مرتبط بغياب الاخلاق وسيادة الفهلوة واذا فعلت غير ذلك تكون مثارا للدهشة قائلا: إن التلف بسيط ولم يهتم بإصلاحه بعد! ما قبل الدولة في مجتمعات ما قبل الدولة تسود الروح العشائرية والقبلية لكن الدولة الحديثة اخترعت أشياء اسمها «مؤسسات» تنظمها قوانين يخضع لها الكبير والصغير فهل نلوم «حربي» المرجح أن كثيرين سيشفقون عليه فهو يمارس مهنة خطرة إذ يواصل ساعات «العمل» قافزا بحركات بهلوانية ليري سيارة رفت بسرعة قبل أن «تدفع الاتاوة» وهو لا ينسي أن يذكر السائق في المرة القادمة بأن تركه وعليه أن يسدد اتاوة مضاعفة: «خليك جدع يا غالي وما تهربش مني تاني»، ومن مخاطر مهنة البلطجة واللحاق السريع بسيارات لاحصر لها أن يسقط «حربي» علي الارض فتنكسر ساقه «حربي» ليس شيطانا ولا ملاكا فهو يمارس «عملا» في العلن ولا يضرب سائقا علي يده ليعطيه لكن السؤال الأهم: ماذا يقول لأولاده حين تنتهي «نوبة العمل» وما العمل الذي يقول لهم إنه يؤديه؟ لا أملك إجابة ولا أستطيع أن ألومه فهو جزء من سياق عام يشمل رجال الشرطة الذين ينتشرون في الشارع دليلا علي غياب الدولة والقانون والاشرار منهم يقتسمون الاتاوات البلطجية يري الضباط بصقورهم ونجومهم والامناء والعساكر كيف يتحكم السائقون وكيف يخضع المواطنون الذين لايثقون في الشرطة لا أقول الدولة أو القانون لاسمح الله ويدفع المواطن الاجرة ثلاث مرات في السيارة نفسها لكي يصل الي نهاية الشارع وطظ في اللافتات التي تحدد المسافة والأجرة وماذا يقول رجال الشرطة أيضا لأولادهم حين يعودون وما طبيعة الانجاز الذي يفتخرون به أمامهم ؟ «حربي» مسكين ورجال الشرطة أيضا لانهم معرضون لاخطار واصابات عمل في حين تمارس مثل هذه الاعمال وأكبر منها شركات شيك جداً تتخذ من مبان عملاقة مقار لها وأضرب هنا مثالا بالجمعية المصرية للتأمين التعاوني فبعد اتصال واحد مني توالت اتصالاتهم واستفساراتهم عن المكان الذي ستكون به السيارة ليأتي مندوب لمعاينتها وتصويرها 6*9 تمهيداً لدفع مبلغ التأمين ضد الحوادث وتعرضت السيارة لحادث بسيط رقم 99814 وأخطرتهم يوم 19/11/2008 وجاء المهندس الي ورشة الحاج صديق وتمت المعاينة المبدئية التي يقدر فيها المهندس مبلغ التعويض ثم معاينة ثانية بعد الاصلاح المفترض والمعلن والمصرح به في الشركة أن المبلغ يسترد بعد اسبوعين لكنني ذهبت بعد أشهر ففوجئت بأن التقرير المبدئي قبل الإصلاح لم يصلو كان الموظف قد صلي الظهر وتقبل الله منه ثم أبلغني بذلك قائلا: إن المهندس الذي عاين السيارة كان في عمرة وكأن العمرة تدفعه لتعطيل عمله ولم أقل له إن مهندسين ممن يذهبون للمعاينة يحصلون علي رشوة من صاحب الورشة الذي يأخذها بدوره من مالك السيارة وإن من سوء الاخلاق أن يتصدق مهندس من مال حرام أو يحج منه أو يعتمر فأنني يستجاب له حدث هذا النصب الشيك علي الرغم من أنني وغيري لم نتعامل مباشرة مع شركة التأمين وإنما من خلال مؤسسة الأهرام التي أخذت المبلغ وتولت التعاقد ثم أتت لنا بالعقد. «حربي» كما قلت مسكين فأمثاله يحصلون في ميدان رمسيس علي ودنه وكوبري أحمد حلمي علي عشرين وثلاثين جنيها حسب طبيعة الفردة وأجرة النفر وعائد هذه الاتاوات سمح للشاب الذي بدأت هذه السطور بحكايته بشراء أسطول من الاتوبيسات وأثق أنهم لن يقرأوا هذا البورتريه لأنه مكتوب عن «حربي» الضعيف الذي لم يصبح بعد مهيب الركن مثل أصغر واحد منهم و«حربي» نفسه لن يقرأه لأن وقته لا يتيح له قراءة صفحة كاملة وبصراحة لا وقت لدي للاختصار فأنا أكتب بسرعة وبعد ساعات سأكون في طريقي الي الاسكندرية وسأقرأ الفاتحة علي روحي قبل الركوب ورغم حبي للسفر فإنني في كل مرة أشعر بالانقباض وأتمني أن أتلقي اتصالاً بإلغائه إذ أشعر كلما عدت إلي البيت بأنني نجوت من الموت وفزت ببقية من حياتي يستوي في هذا السفر إلي الهند في طائرة ترانزيت مطار بالخليج والسفر إلي صفط اللبن، في ميكروباص بلا فرامل، ترانزيت بين السرايات. [email protected]ء