الزمان: صيف القاهرة الساخن عام 2005، المكان: نادى قضاة مصر، حيث اجتمع كل رموز «تيار الاستقلال» الشرفاء، الذين وقفوا بكل شجاعة وبسالة فى وجه استبداد وصلف الرئيس المخلوع حسنى مبارك، فى عز جبروته وسطوته، وفى «ريعان» دولته البوليسية الغابرة! هذه الصفوة من قضاة مصر وعقولها المفكرة، رفضت تسييس القضاء المصرى الشامخ لمصلحة وأهواء أقطاب النظام الساقط، ورفضت تزوير الانتخابات فى وضح النهار لحساب أعوان جمال مبارك وأحمد عز وزكريا عزمى، وسواهم من الفاسدين الذين يلقون جزاءهم العادل فى السجون حاليا. وعلى رأس هذه الصفوة، السيدة الفاضلة المستشارة نهى الزينى، التى فضحت التزوير فى دائرة النائب السابق جمال حشمت، وغيرهم من شرفاء هذا الوطن، الذين كانوا يطبعون أحداث الجمعيات العمومية - بالصوت والصورة- على اسطوانات مدمجة، ويوزعونها على الصحفيين والإعلاميين فى النادى، فيما كانت جحافل الأمن المركزى و«مباحث أمن الدولة» تحاصر المبانى الثلاثة، وهى نادى القضاة ونقابتا الصحفيين والمحامين، بشكل دائم. كان اليوم هو الجمعة، وقد أدينا الصلاة فى شارع «شريف» بوسط البلد تحت حصار الأمن، وتحرك القضاة مرتدين أوشحتهم بقيادة المستشار زكريا عبد العزيز، ومعه المستشارون أحمد ومحمود مكى وهشام جنينة وأشرف البارودى وفؤاد راشد، وحسن عيسى إضافة إلى كل أعضاء الجمعية العمومية للنادى، متجهين صوب نقابة الصحفيين لإعلان تأييدهم لأعضائها الواقفين سدا منيعا أمام جبروت النظام، الذى لم يكن أحد ليصدق – وقتها- أن موقعا اسمه «فيس بوك» وعددا من الشباب سوف يُسقطونه من حالق! وعاد القضاة إلى ناديهم لأنهم كانوا فى اعتصام مفتوح، احتجاجا على قيام ضابط شرطة بضرب المستشار محمود عبد اللطيف حمزة وكسر قدمه و«خطفه» من أمام النادى فى «بوكس» تابع للداخلية، فى عملية قادها العميد محمد برغش ضابط أمن الدولة الذى كان مسئولا آنذاك عن مراقبة رجال القضاء، وكأنهم – وهم الشرفاء- متهمون بحب الوطن. كنا نشارك فى الاعتصام، ونبيت الليل مع القضاة فى ناديهم لمؤازرتهم. وعند أذان العصر، وأنا أقف داخل النادى، رأيت عمنا الحبيب جورج اسحاق قادما إلينا من شارع شامبليون، وقبل نقابة الصحفيين بعدة أمتار تم القبض عليه بتعليمات من اللواء اسماعيل الشاعر، مدير أمن القاهرة الأسبق، الذى كان يجلس مع رجاله على الرصيف المواجه لمبنى النقابة. أحاط زبانية الأمن بجورج اسحاق على شكل كردون من الجنود والضباط معا، وهو لا يملك من أمره شيئا، لكن العدد الكبير من أفراد الأمن كان مبالغا فيه، حتى يخيل للناظر الذى لا يعرف الرجل أنه «مستر إكس» أخطر رجل فى العالم! دخلت أنا إلى النادى وأبلغت المستشار زكريا عبد العزيز بما حدث، فقام ونادى بأعلى صوته «أخونا جورج اسحاق تم القبض عليه فى الخارج، فتعالوا نحاول أن نطلق سراحه»، فذهبنا، كاتب السطور والمستشارون «عبد العزيز» وأحمد ومحمود مكى وهشام جنينة وأشرف البارودى، من أجل هذه المهمة الصعبة. وبمجرد خروجنا من باب النادى متوجهين إلى موقع الحدث، قام الشاعر من مكانه مسرعا بصحبة عدد من الضباط، وكان المشهد تاريخيا. المستشار محمود مكى يخاطب الشاعر بصوت جهورى: «يا اسماعيل بيه.. رينا بيقول فى كتابه العزيز (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)، يا إسماعيل بك.. ربنا مش هيحاسب فرعون لوحده، لأ، هامان وجنوده كمان هيروحوا معاه النار»! وأضاف المستشار محمد مخاطبا الشاعر: «لا تنس إنى حملت ابنك بين يدى يوم حادث مارينا، وتلطخت يداى بدمائه، اتق الله يا اسماعيل»! فى هذه اللحظة المؤثرة، طأطأ الشاعر رأسه وانسحب من المكان صامتا، وكان يبدو التأثر على وجهه، ودخلت ومعى المستشار مكى لتخليص اسحاق من أيدى زبانية الأرض، ودخلنا به نادى القضاة سالمين كل منا ممسكا بيد اسحاق. أما مناسبة هذا المقال فهى مكالمة هاتفية جميلة للتهنئة بالعيد تلقيتها من المستشار محمود مكى، نائب رئيس الجمهورية، ذكّرته خلالها بالواقعة، بعد أن جلس مبارك والعادلى والشاعر وحسن عبدالرحمن فى قفص واحد. لقد دخل فرعون وهامان وجنودهما جحيم الأرض ، قبل أن يدخلوا جحيم السماء، وتحققت نبوءة نائب الرئيس فى هذه الحياة الدنيا، وصدق سبحانه وتعالى، وهو القائل فى كتابه الكريم «وقُطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين». أما بعد الثورة فقد ذهب كل الشرفاء الذين دفعوا الثمن غاليا من أجل نجاحها وأخص بالذكر منهم كروان هذه الثورة المناضل كمال خليل وكمال أبوعيطة والمهندس محمد الاشقر وعمنا محمد عبدالقدوس والدكتور عبدالحليم قنديل الذى تم خطفه وتركوه فى الصحراء عاريا ثمنا لمحاربته التوريث وكان هو أول من بدأ هذا الطريق واساتذتنا عادل حمودة وإبراهيم عيسى ووائل الابراشى والمرحوم محمد السيد السعيد وزوجته الزميلة نور الهدى زكى ومنهم ابناؤنا رشاد عزب وعبدالعسكرى وأبودومة والمناضل الجميل خالد عبدالحميد والاستاذ جمال فهمى ويحيى قلاش وأحمد أبو المعاطى والسيدة كريمة الحفناوى وكاتب هذا المقال عندما نشرت تحقيقا فى جريدة الأنباء الدولية بعنوان هنا سوف يدفن الرئيس، كان تقرير المجلس الأعلى للصحافة أن أول من ساهم فى شائعة صحة الرئيس هو محمد سعد خطاب وبعدها كان استاذنا إبراهيم عيسى فى الدستور وحكم عليه بالسجن بسببها وتم إيقاف الحكم بعد ذلك بعفو من مبارك.. أسفى الشديد أن الذين دفعوا الثمن تواروا عن الأنظار والذين يملأون الدنيا صياحا فى الفضائيات وزهقونا من حياتنا بدعوى أنهم ثوار هم الذين يقبضون الثمن الآن تم نشر المحتوى بعدد 612 بتاريخ 3/9/2012