يحدث أحيانا أن يختفي شخص في مدينة كبرى، ضمن حدود دولة تدعي أنها قوة اقتصادية وعسكرية عالمية، وفي وضح النهار، ويتحدث عنه رئيس الدولة وحزبه ومستشاروه ووزراؤه وأجهزته الأمنية طوال أكثر من أسبوع، وتظل المُحصلة صفر.. منطقيا لا يمكن القول إن جمال خاشقجي ذهب أدراج الرياح، وعمليا هذا ما يبدو أنه حدث. دخل خاشقجي مقر القنصلية السعودية شمالي مدينة إسطنبول التركية بعد ظهر الجمعة 28 سبتمبر. كان الهدف حسبما أُعلن لاحقا استخراج مستند يخص حالته الاجتماعية، ولظروف فنية وإدارية كانت هذه المعاملة صعبة وقتها، فغادر القنصلية على أن يعود مرة أخرى. لاحقا عاد خاشقجي لقنصلية بلاده بعد ظهر الثلاثاء 2 أكتوبر، وهنا كانت بداية المسلسل المُلغز.
دخل جمال القنصلية وخرج في غضون دقائق، أو ساعة على الأكثر. هذا ما أكده القنصل والسلطات السعودية وولي العهد محمد بن سلمان نفسه. خديجة آزرو جينكيز، السيدة التركية التي تقول إنها خطيبة الكاتب السعودي ورافقته لمقر القنصلية، روت أنها انتظرته بين الواحدة بعد الظهر ومنتصف الليل وبعدها هاتفت مسؤولين بالحكومة التركية. والأخيرة تدّعي أنه اختفى داخل القنصلية ولم يغادرها. وتفرعت من الرواية الحكومية روايات أخرى عجيبة، بين قتله وتقطيع أوصاله، أو إذابة جسده في محلول كيميائي، أو تهريبه خلسة إلى الأراضي السعودية.
روايات عدّة ومسؤول واحد
كل الروايات السابقة، وغيرها مما قد يُستجدّ من قصص وتفسيرات، تقع مهمة إثباتها أو نفيها على عاتق الحكومة التركية وحدها، إذ إنه رغم الوضع السيادي للقنصلية السعودية فإنها تظل بحكم الجغرافيا أرضا تركية، محصورة بشوارع وكاميرات وأكمنة ومنافذ تخضع بكاملها للسلطات التركية. المشكلة أن حكومة أنقرة تحاول الهروب من هذه المسؤولية، ومراكمة التراب والموانع على طريق أي سؤال منطقي عن اضطلاعها بمهامها الأمنية، أو مطالبتها بسدّ الثغرات العديدة التي تبدو واضحة في رواياتها المتفرقة.
القنصلية السعودية قالت منذ اللحظة الأولى إن كاميراتها الداخلية معطلة، وبالتبعية لا تتوفر لديها مواد بصرية لدخول خاشقجي أو خروجه. ومنذ اللحظة الأولى أيضا لم تنف دخوله ولو على سبيل التمويه والهروب الإعلامي، ولم توفر مادة بصرية لزيارته القنصلية قبلها بأربعة أيام ومغادرته سليما معافى بعد دقائق، وذلك للسبب نفسه. تعطل كاميرات المراقبة.
على الجانب المقابل قالت الأجهزة الأمنية إن لديها كاميرات وتوثيقا كاملا لدخول خاشقجي القنصلية والقرائن القاطعة باختفائه داخلها. وقالت إن فريقا من 15 مسؤولا أمنيا سعوديا هبطوا بطائرتين خاصتين في مطار أتاتورك الدولي قبل ساعات من اختفاء جمال، وغادروا في اليوم نفسه بعدما زاروا القنصلية. وقالت إن خاشقجي قُتل، ثم قالت إنه ما زال حيًّا، ثم قالت جرى تهريبه للخارج. وقبل كل هذه الروايات والتفاصيل التي لا رابط بينها، أكدت أنها فتحت تحقيقا موسعا في يوم اختفاء جمال. أي مساء الثلاثاء 2 أكتوبر.
واقعيا يمكن القول إن السلطات التركية تحقق في الأمر منذ 10 أيام. وهي مدة كافية للغاية للوصول إلى قرائن قوية وحقائق واضحة حول موقف جمال خاشقجي، خاصة مع اهتمام الرئاسة التركية والحكومة وكل المستويات الأمنية العليا بالقضية، وتحوّلها إلى قضية رأي عام. لكن حتى الآن لم تقدم أنقرة أي شيء ذي قيمة في هذا الأمر. في البداية دفعت ضابطين بالشرطة للتصريح لوكالة «رويترز» بأن الشواهد ترجح قتل جمال داخل القنصلية. لاحقا قالت مصادر بالشرطة والادعاء العام إنه مُختطَف على قيد الحياة. بالتزامن قال الرئيس التركي إردوغان إنه حي، واتهم مستشاره ياسين أقطاي البعثة الدبلوماسية السعودية بتصفيته، ثم عاد ونفى مسؤولية المملكة عن الأمر.
مناورة الوقت ووهم المعلومات
وسط هذا المناخ الفوضوي، لم تتوقف التأكيدات التركية لامتلاك معلومات قاطعة حول خاشقجي ومصيره، وفعليا لم تقدم أيّة معلومة دامغة. كل ما فعلته أنها سرّبت شريطا قصيرا للحظة دخول خاشقجي القنصلية، وربطت ربطا متعسفا بين الطائرتين الخاصتين وركابهت الخمسة عشر، ولغز احتفاء الكاتب السعودي، وفرغت قطاعا من مسؤوليها للحديث مع وكالات الأنباء العالمية بالروايات المتضاربة نفسها. دون إعلان جاد أو واضح لآخر ما توصلت له تحقيقاتها الطويلة.
بحسب الرواية التركية فإن 15 مسؤولا سعوديا وصلوا أراضيها على متن طائرتين خاصتين للمشاركة في عملية إخفاء جمال. لكن المعلومات غير المعلنة رسميا من جانبها تنسف هذه الرواية. هبطت الطائرتان HZ- SK1 وHZ- SK2 في مطار أتاتورك صباح الثلاثاء، حجز ركابها في فندق موفنبيك شمالي إسطنبول، وغادروا في اليوم نفسه. لم يزر الركاب الخمسة عشر القنصلية أو بيت القنصل، ولم تُقدم دليلا معلوماتيا أو بصريا على تحركهم من مقر الفندق إلى القنصلية (المسافة بينهما 650 مترا مغطاة بأكثر من سبع عشرة كاميرا). كل ما تملكه تركيا وأجهزتها الأمنية في هذا الباب تفسيرات نظرية مصنوعة لا دليل عليها. ولا ملمح في آلية التعامل تلك إلا أن هناك رغبة استباقية لإدانة السعودية، إما بغرض الابتزاز المالي والسياسي، أو التغطية على فشل الأجهزة التركية.
السيدة جينكيز.. ثغرة تركيا وصديقتها
الأجهزة نفسها لا يبدو أنها تتعامل مع القضية بالجدية الواجبة. هناك أطراف مهمة في الأمر لم تخضع لتحقيق جاد وتفصيلي، أبرزها السيدة خديجة آزرو جينكيز، التي تقول إنها كانت في انتظار خاشقجي خارج القنصلية، وهاتفت ياسين أقطاي، مستشار إردوغان، بعد شكها في اختفاء الكاتب السعودي. وتقول إنها انتظرت أمام مقر القنصلية أكثر من إحدى عشرة ساعة، ثم عادت في صباح اليوم التالي.
خديجة تجيد اللغة العربية، وأقامت في سلطنة عمان سنتين لإعداد رسالة ماجستير عن التسامح تحت حكم السلطان قابوس. تربطها قرابة بمستشار أردوغان ووجوه بارزة بالنظام التركي، وتجمعها صداقة قديمة مع الكاتب القطري جابر الحرمي، كما أنها متخصصة في الشأن الإيراني ولديها اتصالات مع مسؤولين في طهران. والأهم أن رواياتها متضاربة، بين قولها إن الأمن التركي كان في إجازة يوم اختفاء جمال، ثم قولها إن الأمن أخبرها بمغادرته القنصلية. والأهم من كل هذا أن قصة خطبتها للكاتب السعودي تبدو مريبة، إذ لم يتحدث من قبل عن الأمر ولم يُشر إليه، وحتى عندما نشر صورة تجمعه بالسيدة التركية مع آخرين قبل أسبوع أشار إليها ب«الباحثة». واكتملت الريبة بنفي صلاح، نجل جمال خاشقجي، والمستشار القانوني للأسرة معتصم خاشقجي، معرفتهما أو أي من أفراد العائلة بهذه السيدة أو ارتباطها بالسيد جمال.
حالة البطء العجيبة التي يتحرك بها الأمن التركي تبدو ملفتة للغاية. ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قال في حوار مع وكالة بلومبيرج، جرى الأربعاء 3 أكتوبر ونُشر الجمعة 5 أكتوبر، إن المملكة مستعدة لفتح أبواب القنصلية للأجهزة التركية لتفتيشها، رغم أنها منطقة ذات وضعية سيادية. رغم هذا لم يتحدث الأمن التركي عن الأمر إلا بعد ظهر الثلاثاء الماضي، ومن خلال تصريحات إعلامية عن نيته تقديم طلب في هذا الشأن، تبعهتها موافقة واضحة من الرياض على الطلب الذي لم يُقدّم بعد. ثم اتفاق الجانبين في اليوم التالي على تشكيل لجنة تحقيق مشتركة، بعد رفض تركي غير مبرر لهذا الأمر. هذا التتابع الغريب في المواقف والتصريحات المتناقضة قد يُشير إلى كواليس تعج بالأسرار في أروقة الأجهزة الأمنية التركية. لا يبدو أن لديها رغبة في إعلانها، أو أن من مصلحتها نشرها على الملأ.
خديجة جينكيز التي تقول انها خطيبة جمال خاشقجي
5 مستفيدين.. 5 متهمين محتملين
البحث في لغز اختفاء جمال خاشقجي وفق نظرية المصلحة والمستفيد المباشر، ربما يكون في صالح المملكة وحدها. كان جمال محسوبا طوال الوقت على النظام السعودي طوال حقبتي الملكين فهد وعبد الله، شغل رئاسة تحرير صحيفة الوطن الرسمية مرتين بين 2003 و2010، وكان مستشارا لرئيس الاستخبارات السابق تركي الفيصل خلال تمثيله المملكة دبلوماسيا في لندنوواشنطن، ولم يخرج من المملكة إلا في يوليو 2017 مقيما في الولاياتالمتحدة وكاتبا للمقالات في واشنطن بوست وعدّة منصات أخرى. طوال الشهور التالية لم يبدُ أنه يمتلك أسرارا أو معلومات مزعجة، لم يقدّم نفسه في صورة المعارض الشرس لنظام الحكم، سجل بعض الملاحظات على إدارة الملفات السياسية والاقتصادية، وأقر ببيعة الملك سلمان وولي عهده، والتقى السفير السعودي في واشنطن، خالد بن سلمان (نجل الملك وشقيق ولي العهد) أربع لقاءات مطولة خلال هذه الفترة. والأخير وصفه ب«الصديق» عندما تحدث عن اختفائه. النظرية نفسها - نظرية المصلحة والاستفادة - ربما تُشير بأصابعها الخمسة إلى أطراف أخرى، في القلب منها تركيا، وحولها إيرانوقطروالولاياتالمتحدة والإخوان والجماعات الدينية المتشددة.
بالنسبة لتركيا ربما يكون الموضوع محاولة ابتزاز مالي في ظل أزمة اقتصادية خانقة تعيشها في الشهور الأخيرة. محاولة تخيلت أنها يمكن أن تمر مرورا ناعما، بجانب تسويقها لدى النظام القطري كخطوة لتقويض خصمها اللدود في الرياض، بغرض مضاعفة الفاتورة المالية التي تدفعها الدوحة لأنقرة. وفي الوقت نفسه تغذية ماكينة الولاء الإخواني الميليشياتي للنظام التركي بمزيد من وقود القوة والعظمة وحصار الخصوم، وتقديم أوراق اعتماد أنقرة في طهران كحليف مخلص وأهل للثقة، مع الاقتراب من محطة الحظر الأمريكي لصادرات النفط الإيرانية في الرابع من نوفمبر المقبل، وهي الفترة التي تصبح خلالها أراضي تركيا وموانئها منفذا بديلا للنفط والغاز الإيرانيين، مقابل عمولة مالية وحصة في الوقود.
النظرة الإيرانية للموقف لن تكون بعيدة عن وضعية العداء. طهران تتكبد خسائر فادحة تحت ضغط ضربات التحالف العربي لحلفائها الحوثيين في اليمن. وتبدو على مشارف خروج مهين من سوريا في وقت تغيرت فيه النظرة السعودية لنظام دمشق وبشار الأسد، والصورة نفسها تقريبا في العراق مع تقطّع خيوط الاتصال الإيرانية وتنامي قوة المحاور السنية بالمنطقة. في القضية الفلسطينية باتت حركة حماس خارج ولاية طهران والحرس الثوري جزئيا، لصالح دور مصري سعودي أكبر وأكثر تأثيرا. والأهم أنها بصدد خسارة موردها المالي الأهم مع حظر صادراتها النفطية بموجب العقوبات الأمريكية، وتقدم السعودية لملء الفراغ المتوقع في سوق الطاقة. بحسب حوار محمد بن سلمان مع بلومبيرج قبل أسبوع، قال ولي العهد السعودي إن صادرات إيران تقلصت مؤخرا بواقع 700 ألف برميل قابلتها المملكة ب1.4 مليون برميل، وإنها جاهزة لتعويض كل برميل مفقود ببرميلين من إنتاجها الاحتياطي. كل هذه الأمور كافية لأن تنظر طهران للرياض من عدسة العدو، وأن تدعم كل الجهود والتحركات المتاحة لتقويضه، حتى لو كانت تنطوي على خفة واضحة أو مغامرة غير محسوبة.
الصورة في الدوحة لا تختلف عن هذا كثيرا. تواجه قطر منذ أكثر من 16 شهرا حصارا عربيا خانقا، بعد إثبات ضلوعها في دعم الإرهاب والميليشيات المسلحة في المنطقة، واتخاذ الرباعي العربي (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) موقفا جادا منها. خلال هذه الشهور تكبد النظام القطري فاتورة قاسية مالية قاسية، سواء بتراجع النمو والاستثمارات الخارجية، أو ارتفاع تكلفة التجارة وتدبير السلع الأساسية، أو خسائر الخطوط الجوية والشركات الحكومية الأخرى، أو اضطرارها لدفع جزية باهظة لحكومتي أنقرة وطهران لقاء الحماية والوجود العسكري المباشر. تآكلت علاقات الدوحة الإقليمية والدولية، وأصبحت عُرضة للابتزاز الأمريكي المباشر، وساءت صورتها الدولية مع انكشاف كثير من الحقائق وتتبع الصحافة والمؤسسات الحقوقية لجرائمها بحق العمالة الآسيوية وإسقاط الجنسية عن قبائل آل مرة وآل غفران ورشاوى كأس العالم 2022. طُردت من للتحالف العربي بعد ثبوت دعمها للحوثيين، وقوّضت الدول العربية الكبرى حضورها في مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية. باختصار خسرت قطر خسائر مُهينة وقاسية، كانت السعودية واحدة من أسبابها المباشرة، وربما تدفعها رغبة الثأر لتكبيدها خسائر مماثلة، أو شيطنتها أمام العالم بحثا عن مفاتيح لتغذية رواية المظلومية.
في كل الفجوات التي يمكن التعثر فيها خلال البحث في لغز اختفاء خاشقجي، تبدو قطر حاضرة بقوة. لا يرتبط الأمر بالعلاقات الوثيقة وفوق الطبيعية بين الدوحة وأنقرة، ولا في حضور كاتب النظام الشهير جابر الحرمي ضمن الدوائر المقربة من خاشقجي وصداقته لخطيبته المزعومة، ولا حتى الحبل السُّرّي الوثيق بين تميم في قصر الوجبة والإخوان في أنقرة وإسطنبول، والرحلات المتبادلة يوميا بين الوجهتين. منذ اللحظة الأولى تبنّت قطر وإعلامها، الرسمي ممثلا في الجزيرة وغير الرسمي في قناة العربي وقنوات الإخوان وموقع عربي 21 وغيرها، رواية واحدة للأزمة تنحاز لفرضية تصفية خاشقجي. استبقت قطر بهذه الرواية كل المؤشرات الرسمية وغير الرسمية الصادرة عن تركيا، وحشدت جهودها وإعلامييها للمشاركة في ترويجها. هكذا تعددت التغريدات عبر صفحات أحمد منصور وفيصل القاسم وخديجة بن قنة وغيرهم. لاحقا حذفوا هذه التغريدات بعد تعقد المشهد وارتباك الموقف التركي، لكن بقي الأمر مؤشرا واضحا على مسار تدفق معلوماتي غير معلوم، وحتى لو كانت المعلومات مختلقة بالكامل فإن في الأمر ثغرة تحتاج للبحث واستجلاء ما يختفي في كواليسها. خاصة مع دفع الدوحة بعدد من وجوه الإخوان للسفر إلى إسطنبول والمشاركة في وقفة نظمها ما يُعرف ب«بيت الإعلاميين العرب في تركيا» ورئيسه طوران قشلاجي، القريب من الجماعة والدوحة والنظام التركي، بعد قرابة خمسة أيام على اختفاء خاشقجي، كان في مقدمتهم عبد الرحمن نجل رجل الدين الأقرب للنظام القطري يوسف القرضاوي، وشاركت فيها الناشطة اليمنية المحسوبة على الإخوان توكل كرمان، التي واجهت انتقادا تاليا من شقيقها طارق في تغريدة عبر تويتر لموقفها الساخن في قضية خاشقجي والمتجاهل لأزمة اليمن، في تلميح لانحيازها للرؤية الإخوانية وتحركها وفق توجيهات من الجماعة.
عبد الرحمن القرضاوي في وقفة الإخوان أمام القنصلية السعودية بإسطنبول
الإخوان على خط اللعبة
النظر للأمر من زاوية الإخوان يتضمن أكثر من احتمال. الجماعة التي خسرت الحكم في مصر بضغط الثورة الشعبية العارمة في 30 يونيو، ترى السعودية عدوا مباشرا لها، لأنها دعمت الثورة المصرية والنظام التالي لها. والأمر نفسه يتكرر في معاقل أخرى تخسر فيها الجماعة، في تونس وليبيا وسوريا واليمن وفلسطين والأردن، ولا تبدو الرياض بعيدة عن كل هذه الخسائر أو دعم خصوم الإخوان ومؤسسات الدول التي تواجه الجماعة.
يُضاف لهذا تآكل قوة النظام التركي وانحسار دوره الإقليمي مع تراجع حضوره في سورياوالعراق وليبيا، وتواتر مؤشرات وشواهد على سعيه للتقارب مع الدول التي تعاديها الجماعة، وربما في مقدمتها مصر، وما يحيط بهذا من مخاوف خسارة الملجأ الآمن في الأراضي التركية. الشاهد في هذا الأمر تعقد أوضاع عدد من كوادر الجماعة ومؤيديها في الفترة الأخيرة، بعد تصاعد الصراعات القانونية واتهامات الفساد المالي، واعتياد وجوه الجماعة على زيارة المراكز الشرطية في الفترة الأخيرة. كان أبرزهم عمرو عبد الهادي وهشام محمود وأيمن نور وأحمد عبد الرحمن نفسه.
أحمد عبد الرحمن القيادي الاخواني في تركيا
بجانب هذه الأمور يبدو جمال خاشقجي نفسه خائنا من وجهة نظر الجماعة، كان الرجل الذي بدأ حياته صحفيا ناشطا في دوائر الجماعات الدينية المتشددة، وصديقا للقاعدة، ذا هوى إخواني واضح. بدا هذا الأمر واضحا في مقالاته ولقاءاته التليفزيونية، وفي كتابه «ربيع العرب.. زمن الإخوان المسلمين» الصادر في 2013. لكنه عقب الخروج من المملكة وتبدل الأوضاع الإقليمية حاول تسويق نفسه لبلد الإقامة ومؤسساتها الصحفية في صورة الوجه الإسلامي المعتدل ذي النكهة الليبرالية. لم يعد داعما قويا للإخوان في الوجه المُعلن، بل بدا أحيانا خصما مباشرا لرؤية الجماعة كما حدث في لقائه مع معتز مطر عبر قناة الشرق (فبراير 2018) حينما فنّد وجهة النظر الإخوانية تجاه المملكة وولي العهد محمد بن سلمان وقضية «ريتز كارلتون» الشهيرة.
في المسار نفسه لا يمكن انتزاع موقف إردوغان المهتز تجاه الإخوان وحلفائها من المشهد. تراجعه عن دعم الجماعة في المناطق الساخنة مثل ليبيا وسوريا واليمن يبدو مؤشرا خطيرا على مستقبل متوتر. كما أن مساعي التقارب مع دول إقليمية تعتبرها الجماعة خصما لها لا يمكن استبعاد أن تكون من آثاره محنة جديدة للتنظيم، أو شتات وبحث عن مأوى جديد. كما لا يمكن تجاهل إبرام النظام التركي اتفاقا مع دمشق وروسيا بشأن إدلب والميليشيات المسلحة فيها، وجانب منها محسوب على الإخوان. كل هذه الأمور، بجانب الأزمة الاقتصادية والمعارضة الداخلية اللتين تزيدان من عبء احتضان النظام للجماعة، تبدو خطوات أولى على مسار خسارة فادحة للإخوان في تركيا. هنا تتعدد احتمالات المصلحة الإخوانية، إما بتقويض التقارب التركي مع الخصوم، أو إلهاء المملكة عن تتبع الإخوان وحصارهم، أو ردع إردوغان ورده عن صفقة إدلب، أو تأديب جمال خاشقجي الذي لم يعد مخلصا للجماعة، والاحتمال الأخير تملك الإخوان سجلا طويلا فيه من تصفية الخصوم أو استهدافهم بدنيا أو تشويههم أخلاقيا وإعلاميا.
خامس المستفيدين المحتملين الولاياتالمتحدة. في الشهور الأخيرة تخوض واشنطن صراعا سياسيا واقتصاديا مع أنقرة، بدأ بقضية القس الأمريكي المُدان من القضاء التركي في اتهامات تتعلق بدعم الإرهاب والتورط في محاولة الانقلاب العسكري صيف العام 2016، وامتدّ لحالة من التراشق بالرسوم الجمركية والعقوبات المالية، شملت تجميد الولاياتالمتحدة لحسابات وزيرين تركيين وفرضها رسوما جمركية مُضافة لصادرات الصلب والألومونيوم التركية، تبعها ردّ من أنقرة بفرض حزمة رسوم على عشرات السلع الأمريكية من السيارات حتى السجائر والكحول، وكان من نتائج هذه المناوشات خسارة الليرة التركية قرابة 40% من قيمتها أمام الدولار، وتراجع مؤشرات النمو والاستثمار الأجنبي وتوليد فرص العمل، وارتفاع التضخم وعجز الميزان التجاري والديون الخارجية وأسعار آلاف السلع والخدمات.
تريد الولاياتالمتحدةالأمريكية استعادة القس أندرو برونسون بكل الطرق والوسائل المتاحة. وفي الوقت نفسه لا يفوّت الرئيس دونالد ترامب فرصة لابتزاز الجميع، الحلفاء قبل الخصوم. قبل أيام من اختفاء جمال خاشقجي تحدث في تجمعين انتخابيين للحزب الجمهوري عن وجوب أن تدفع السعودية فاتورة الحماية الأمريكية، وهو ما رد عليه ولي العهد السعودي في حوار بلومبيرج بأن المملكة تسدد مقابل ما تحصل عليه من أسلحة أمريكية وأنها لن تدفع مقابل أمنها. وعقب اختفاء خاشقجي وجد ترامب الفرصة مواتية لاستكمال عملية الابتزاز، فأعاد تكرار ما قاله من قبل عن الفاتورة التي يجب أن تدفعها الرياض.
تعامل واشنطن مع أزمة اختفاء خاشقجي كان ملفتا للنظر منذ اللحظة الأولى. في الوقت الذي اكتفت فيه بريطانيا وألمانيا ودول أخرى بتصريحات مقتضبة من خلال دبلوماسيين أو مسؤولين بالخارجية، دخلت الإدارة الأمريكية على الخط بقوة وكثافة غير معهودتين في مثل هذه القضايا، وتعاملت معها وكأنها قضية أندرو برونسون. فخرجت متحدثة البيت الأبيض سارة ساندرز معلّقة على الأمر، وفعل مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ودونالد ترامب نفسه، وتواصل الحديث بشكل يومي ومعدّلات متنامية من مسؤولين بالبيت الأبيض والخارجية والاستخبارات ومكتب التحقيقات الفيدرالي الذي عرض المشاركة في فرق البحث والتحقيق التي تتولى القضية.
الاهتمام الأمريكي المبالغ فيه ربما يكون مرتبطا بالأثر النفسي لجرح الكرامة الذي أحدثته قضية أندرو برونسون. لكن لا يمكن استبعاد فكرة أن يكون محاولة لابتزاز المملكة العربية السعودية ماليا، أو أن يكون مناورة لاستعادة أندرو برونسون. وفي الأخيرة يبدو أن واشنطن وأنقرة قد توصّلتا لاتفاق فعلي في هذا الشأن يقضي بالإفراج عن برونسون خلال أسابيع، وهو ما بدا واضحا في تصريح لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قال فيه إن إفراج تركيا عن القس الأمريكي سيكون أمرا إيجابيا للغاية. هكذا يتبقى الابتزاز المالي للسعودية، فإما يكتفي البيت الأبيض باستعادة برونسون ويُغلق الملف أو يُخفف درجة اشتباكه معه، أو يواصل رحلته للحصول على أية فائدة مالية، وفي ضوء الرفض السعودي للابتزاز أو الدفع مقابل الأمن، قد تستمر اللهجة الأمريكية بمستواها الحالي، أو تخفت قليلا.
ترامب
فجوة في الروايات التركية
من غير المحتمل أن تكشف تركيا في الأيام المقبلة معلومات مؤثرة بشأن جمال خاشقجي ولغز اختفائه. لو كان ما تملكه يصلح للعر، أو كانت لديها النية لفعلت. من المُرجح أن أنقرة لديها معلومات، ومن المُحتمل أنه ليس في صالحها أن تخرج هذه المعلومات للنور.
الحديث عن الطائرتين HZ- SK1 وHZ- SK2 وركابها الخمسة عشر يبدو مناورة مبتورة. لم يغادر المذكورون فندق موفنبيك إلى القنصلية أو بيت السفير، ولا تثبت سبع عشرة كاميرا تغطي 650 مترا بين الفندق والقنصلية تحركهم في هذا الاتجاه، كما أن الطائرتين من طراز «جولف ستريم» المملوكتين لشركة سياحة سعودية خاصة، غادرتا في وجهتين إقليميتين غير الرياض، وقبل مغادرتهما خضعتا لتفتيش دقيق من الأجهزة الأمنية التركية، وخضع ركابها للتفتيش وأجهزة المسح خلال الوصول والمغادرة، ولم تكشف الأجهزة حملهم أية أسلحة أو أشياء غريبة، أو اشتمال حقائبهم على شخص حي أو أشلاء آدمية. يبدو أن الزيارة لا علاقة لها بالحادث وأن الأمن التركي قرر ربطها به بشكل متعسف.
تجاهل الأمن التركي لشخصية خديجة جينكيز المثيرة، برواياتها المتضاربة وتصريحاتها المشحونة بالمبالغة، وقرابتها لياسين أقطاي وعلاقتها بالإيرانيين والإخوان والقطري جابر الحرمي، ومقالاتها التي تبدو مصنوعة وموجهة في الصحافة الغربية، وإلحاحها المبالغ فيه رغم أن الشواهد تشير إلى قرب بمعرفتها ب«خاشقجي»، ورغم أن أسرتها تنفي معرفتها بها أو خطبتها للكاتب السعودي. هذا التجاهل يبدو غريبا ومريبا، بقدر ريبة الخضوع التركي لابتزاز واشنطن في قضية أندرو برونسون، وموافقتها على تسليمه رغم تشدد إردوغان ورموز نظامه طوال الفترة الماضية في رفض الأمر، وحديثهم المتكرر عن إدانتهم وسيادة القضاء التركي.
ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي إردوغان خاشقجي في «ثقب أسود»
لا تبدو القضية بكاملها مريحة أو متوافقة مع حدود المنطق والنظر العاقل. اختفى خاشقجي وفتح الادعاء التركي تحقيقا موسعا قبل عشرة أيام، وحتى الآن لا تتوفر معلومة واحدة ذات قيمة. تحدث إردوغان عن اختفاء وتحدثت شرطته ومستشاره عن قتل، ثم عاد المستشار لنفي هذه الفرضية. قالت الأجهزة الأمنية إنها ستقدم طلبا لتفتيش السفارة ووافقت السعودية قبل تسلم الطلب، ولم تتحرك أنقرة في مسار جاد لكشف ملابسات الأمر، في ظل توفر تقنيات فنية يمكنها تتبع البصمة الجينية والآثار البيولوجية ل«خاشقجي» حتى لو قُطّعِت أوصاله أو أُذيب في محلول كيميائي. في كل الحالات لا يبدو الوصول لإجابات مقنعة عن الأسئلة الكثيفة حول القصة أمرا مستحيلا، لكنه يظل مرهونا بتوفر الإرادة والجدية من جانب الأجهزة التركية، وتعطّله بمثابة الطعن المباشر في جدية أنقرة.
الحقيقة القاطعة الآن أن جمال خاشقجي اختفى على الأراضي التركية، وتحت سمع الأجهزة الأمنية وبصرها وكاميراتها، التي ربما تتوفر حتى داخل القنصلية السعودية، بالمخالفة للقوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية، ولو ساعد هذا الاختراق غير القانوني في تأمين قدر كافٍ من المعلومات الدامغة، ربما كان الأسهل لأنقرة والأقل كُلفة أن تتحمل تبعات المسؤولية القانونية عن اختراق مقر بعثة دبلوماسية أجنبية، بدلا من فضيحة القصور الأمني وما تنطوي عليه ضمنيا من تأكيد قاطع لأن تركيا بلد غير آمن، مع فداحة هذه الوصمة على السياحة والاستثمار الأجنبي والتجارة الدولية، وثلاثتها تشكل أكثر من 70% من حجم الاقتصاد التركي.
لو كانت السعودية متورطة في اختفاء جمال خاشقجي فلن يكون مستحيلا على دولة تدّعي أنها قوة عالمية كبرى إثبات هذا الأمر. القنصلية سعودية والأراضي تركية، الكاميرات الداخلية معطلة وكاميرات الشارع وعيون الأجهزة وعناصرها داخل كل البعثات الدبلوماسية، والمطارات والموانئ، والبحث الجنائي واستقراء الشواهد والأدلة، كلها ملك تركيا ملكية منفردة لا ينازعها فيها أحد. افتراض تورط السعودية يدين تركيا معها، واستمرار مناورة النظام التركي وأجهزته يدين أنقرة بمفردها.
محمد بن سلمان
لو كانت السعودية مُدانة فبإمكان كل المتهمين المحتملين التكاتف معا لإثبات إدانتها بشكل قاطع لا يقبل اللبس والتأويل. وغياب هذا الإثبات يدعم فرضية أخرى، ليس فقط براءة المملكة، ولا إدانة طرف من الأطراف الخمسة المشتبه بها، وإنما قبل كل هذا يدعم مسار الإخفاء طويل المدى على طريقة موسى الصدر المختفي في ليبيا قبل 40 سنة. إدانة السعودية تقتضي كشف مسار واضح ل«خاشقجي» وملء الفجوة بين دخوله القنصلية والمصير النهائي له، على أن يكون مصيرا واضحا ومدعوما بالأدلة. واستمرار الاختفاء الضبابي دون معلومة أو مسار أو مصير، إدانة مفتوحة على متهمين عدّة. والمُرجح حتى الآن أن المتورط الحقيقي سيستميت في الإبقاء على «خاشقجي» داخل الثقب الأسود.