يبدو الأمر لغزا غير مفهوم، أو هكذا تحاول السلطات التركية تصويه. اختفى جمال خاشقجي فجأة، وبينما كان على أنقرة تحمل مسؤوليتها، والاعتراف بالفشل، أخذت تستبق التحقيق وتشيع معلومات مغلوطة، وتسير في اتجاه المناورة للتغطية على الفشل. الرواية السعودية تقول إن جمال دخل قنصلية المملكة في إسطنبول وغادرها بعد دقائق أو ساعة على الأكثر. بينما تستميت تركيا في إشاعة رواية مقابلة عن أنه لم يغادر مقر القنصلية، وتطور الموقف التركي المراوغ باستباق التحقيقات وادعاء أن الكاتب الصحفي السعودي قُتل داخل القنصلية. يبدو الأمر مريبًا، خاصة بالنظر إلى تجاهل الإعلام التركي للملف، ونشاط قناة الجزيرة والإعلام الإخواني، الشرق والعربي ووطن ومكملين، في تبنّي الرواية التركية التي لا يتوفر عليها أي دليل، وتتصادم بشكل مباشر مع الرواية الموثقة من جانب المملكة العربية السعودية، ومع الموقف الرسمي الذي أعلنه ولي العهد محمد بن سلمان. الكاتب السعودي جمال خاشقجي
جمال.. الإخواني غير المعارض في يوليو قبل الماضي ركب جمال خاشقجي طائرته مغادرا السعودية، مصطنعا خلافا غير موجود مع الإدارة السياسية في المملكة. وطوال أكثر من سنة قضاها في الولاياتالمتحدة، التقى السفير السعودي في واشنطن، الأمير خالد بن سلمان، أربع مرات تقريبا، وكتب عشرات المقالات، ولم يواجه أية مشكلة بالخارج، كما لم تصدر عن أسرته داخل المملكة تصريحات تشير إلى مواجهتها للمتاعب بسبب موقف جمال. بدا في وقت سابق أن لدى جمال خاشقجي هوى داعما لجماعة الإخوان. كان الأمر واضحا للغاية في مواقفه عقب ثورة 30 يونيو في مصر، واستماتته في الدفاع عن الجماعة، وقبلها إصداره كتابا في مطلع العام 2013 بعنوان "ربيع العرب.. زمن الإخوان المسلمين". في مقالات ولقاءات تليفزيونية وصحفية قال خاشقجي إنه مع أنظمة الحكم الإسلامية، ويدعم المرجعية الدينية في الحكم. هذه الرؤية لم تنسجم مع الخريطة السياسية والثقافية التي حملها محمد بن سلمان مع بيعته وليًّا لعهد المملكة العربية السعودية. هنا كانت المؤشرات تتجه إلى حالة جفاء بين الصحفي القريب من مؤسسة الحكم، والاستراتيجية الجديدة التي تبنتها القيادة الجديدة. بعيدا عن هذا الخلف المُؤسَّس على تطور الرؤية السياسية في المملكة باتجاه مواجهة التيارات والجماعات المتطرفة. لم يكن جمال خاشقجي معارضا للنظام السعودي في أي يوم من أيام عمره الذي قارب الستين، أو نشاطه الصحفي الذي تجاوز 30 سنة. تولى الرجل رئاسة تحرير صحيفة "الوطن" الرسمية مرتين بين عامي 2007 و2013، وكان مستشارا للأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات السعودية، إبان توليه منصبي سفير المملكة في بريطانياوالولاياتالمتحدة. وفي لقاء مع الإعلامي الإخواني معتز مطر عبر شاشة قناة "الشرق" المملوكة لأيمن نور، في فبراير الماضي، قال جمال إنه يدعم رؤية الأمير محمد بن سلمان في مكافحة الفساد وقضية "ريتز كارلتون"، وأقر ببيعة الملك سلمان وبيعة ولي العهد. ولم تحمل المقابلة أية مؤشرات على خلاف مع النظام السعودي إلا في مسألة الإخوان والجماعات الدينية. تلك التركيبة النفسية والخلفية المهنية والاجتماعية للصحفي جمال خاشقجي، لا تشير إلى حالة عداء مع النظام السعودي قد تتطور إلى اختطاف أو اعتقال أو إيذاء. الشهور الثلاثة عشر السابقة ل"خاشقجي" بين الولاياتالمتحدة وتركيا، والحياة الطبيعية لأسرته داخل المملكة، ولقاءاته العديدة بالسفير السعودي في واشنطن، وانتظام حياته ومقالاته، تشير كلها إلى تعامل الرياض مع الأمر في إطار طبيعي دون حساسية. وتجعل مسألة الاختفاء الطارئ لغزا ملفتًا، تتحمل مسؤوليته السلطات التركية بالدرجة الأولى، في ضوء عجزها عن توفير معلومات واضحة عن اختفاء الكاتب السعودي في واحدة من أهم مدنها قبل أكثر من 5 أيام. القنصلية السعودية في إسطنبول
مناورة تركية للهروب إلى الأمام تحاول الأجهزة الأمنية التركية تضخيم الأمر وتصويره وكأنه أزمة سياسية ودبلوماسية واختراقا للسيادة والقانون الدولي. في الوقت نفسه لا يشعر الأتراك بالأمر، ولا تتناوله الصحافة ووسائل الإعلام التركية، بينما تدفع الإدارة السياسية في أنقرة بكل قوة في اتجاه ترويج الرواية غير المنطقية وغير المدعومة بأدلة حول تسلسل عملية الاختفاء، ويدخل على هذا الخط مسؤولون بارزون من غير المعتاد أن يُعلقوا على هذه النوعية من القضايا. في هذا الإطار خرج المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، عقب ساعات من ادعاء اختفاء خاشقجي، جازما دون معلومة باختفائه داخل القنصلية السعودية. تبع هذا التصريح الغريب تأكيد عمر جليك، المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن سلطات بلاده ستكشف مصير خاشقجي والجهة الضالعة في إخفائه في ضوء أن هذا الاختفاء "أمر تنظر له تركيا بحساسية". لكن مرت الأيام ولم تكشف تركيا أية معلومات، ولم يصدر عنها ما يؤكد حساسية التعامل مع الملف إلا فيما يخص ترويج معلومات غير موثقة، ومحاولة التغطية على فشل الأجهزة الأمنية وسلطات التحقيق في إسطنبول. في إطار المناورة أعلن الادعاء بمدينة إسطنبول أمس السبت فتح تحقيق حول اختفاء جمال خاشقجي وادعاءات احتجازه داخل القنصلية السعودية بالمدينة. ونقلت وكالة الأناضول التركية الرسمية عن مصادر بالنيابة قولهم إن التحقيق بدأ عقب دخول خاشقجي القنصلية السعودية، وإنه ممتد منذ الثلاثاء الماضي بشكل مفصّل وبتتبع شامل لكل الأبعاد والتفاصيل. لكن لم تُشر الوكالة أو أي من وسائل الإعلام التركية إلى أية نتائج حتى اليوم، بعد ستة أيام من التحقيق الذي تحدثت عنه النيابة العامة في إسطنبول. جمال خاشقجي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
زيارتان ورواية تركية متضاربة المفارقة في الأمر أن جمال خاشقجي زار القنصلية السعودية خلال الأسبوع قبل الماضي، لإنهاء معاملة واستصدار أوراق تخص حالته الاجتماعية، لكن لظروف تخص طبيعة العمل واستصدار هذه الأوراق لم يتمكن من إنجاز المعاملة. ليعود في الأسبوع التالي. وبحسب رواية السيدة التركية خديجة آزرو جينجز، التي تدعي أنها خطيبة الكاتب السعودي، دخل خاشقجي مقر القنصلية في الواحدة ظهرا، وظلت في انتظاره بالخارج حتى منتصف الليل، قبل أن تشعر بالقلق وتتواصل مع مسؤولين بالدولة التركي، ثم تعود مع عمل القنصلية صباح اليوم التالي. تبدو الرواية غريبة ومدّة الانتظار غير منطقية ولا مقنعة. المُدهش أن خديجة وثيقة الصلة بالنظام التركي، وتربطها صلة قرابة مع ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما تجمعها روابط عملية بقناة الشرق الإخوانية التي تبث من تركيا، وقناة الجزيرة القطرية. وتلتقي الكاتب القطري المقرب من النظام في الدوحة، جابر الحرمي، بشكل دوري، وكانت آخر لقاءاتهما في يوليو الماضي لإجراء حوار لمجلة تركية عن الأوضاع في إيران وتطورات ما بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي الإيراني. خديجة آزرو جينجز خطيبة أردوغان المزعومة
في اليوم التالي لاختفاء جمال خاشقجي بدأت الأجهزة التركية مناورتها. ربما لاستهداف المملكة العربية السعودية أو للتغطية على فشل الشرطة والمؤسسات الأمنية في إسطنبول. كانت الخطوة الأولى باستدعاء سفير الرياض في أنقرة، وليد بن عبد الكريم الخريجي، للاستفسار عن وضع الكاتب السعودي المختفي، وحقيقة الادعاء باختفائه داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، وهو ما نفاه سفير المملكة وقدّم المعلومات المتاحة حول توقيت دخول خاشقجي للقنصلية وإنهاء معاملته والمغادرة.
القتيل الحي.. تضارب رجال أردوغان كان الموقف الأغرب في الملف تطوير الشرطة التركية لتعاملها مع واقعة الاختفاء غير المفهومة حتى الآن، بمحاولة دفع القضية في اتجاه التبريد المصحوب بإدانة الرياض. هكذا دفعت أنقرة بمسؤولين بارزين في الشرطة التركية للإدلاء بتصريحات لوكالة رويترز، قالا فيها إن الترجحيات تشير إلى قتل خاشقجي داخل القنصلية السعودية، دون تقديم أية أدلة أو شواهد على هذا الأمر، وفي تجاوز واضح لكل الأطر القانونية للتعامل مع هذه النوعية من القضايا وتحقيقها. كان السياق بكامله أقرب إلى محاولة هروب بالقفز إلى الأمام. بدا واضحا أن تركيا لا تريد استكمال اللعبة، أو تسعى لإخفاء هوية الفاعل الأصلي، أو أنه لا معلومات لديها وتُريد تغطية فشل أجهزتها. لكن في حقيقة الأمر لا يمكن التعامل مع الحديث عن جريمة قتل دون دليل أو جثة إلا باعتباره هروبا، وفشلا مضاعفا. حتى لو رأت تركيا أنها أفلتت من محنتها بهذه الطريقة الساذجة. محمد العتيبي قنصل السعودية بإسطنبول
على الجانب المقابل للادعاءات التركية، تحركت القنصلية السعودية في إطار عملي للبرهنة على صدق روايتها بشأن خروج جمال خاشقجي من مقر القنصلية عقب إنهاء معاملته، وعدم دقة المزاعم والادعاءات المتواترة على ألسنة أجهزة ومسؤولين أتراك. في هذا الإطار فتح محمد العتيبي، قنصل المملكة بإسطنبول، مقر بعثته لمراسلي وكالة رويترز مساء أمس السبت، وقال خلال اللقاء: "أؤكد أن المواطن جمال غير موجود في القنصلية ولا في المملكة. والقنصلية والسفارة تبذلان جهودًا للبحث عنه، ونشعر بالقلق إزاء القضية". لافتا إلى أن جمال لم يواجه أي اتهامات قانونية خلال الفترة التي قضاها في القنصلية، وأن كاميرات المقر لم تُسجل أية لقطات، لكن يُحتمل أن يكون خاشقجي قد غادر من المدخل الخلفي للبناية، مشددا على أن الادعاء باختطافه مجرد شائعات. وأبدى الدبلوماسي السعودي أسفه من تصريحات المسؤولين الأتراك التي تستهدف الرياض وتُصر على مزاعم وجود خاشقجي في القنصلية. بجانب الموقف الرسمي المعلن من القنصلية والسفير السعودي في أنقرة. تحدث ولي عهد المملكة عن الأمر بشكل واضح في حواره مع وكالة بلومبيرج. جرى الحوار في أحد القصور الملكية بالرياض بعد ساعات من ادعاء تركيا اختفاء جمال خاشقجي، نُشر مساء الجمعة الماضية. وفي الحوار سألت صحفية بلومبيرج الأمير محمد بن سلمان عن خاشقجي، فقال: "نسمع عن شائعات حول ما حدث. هو مواطن سعودي، ونحن حريصون جدا على معرفة ما حدث له، وسنستمر في محادثاتنا مع الحكومة التركية لمعرفة ما حدث لجمال هناك". وفي شرحه لملابسات الأمر قال إن خاشقجي دخل القنصلية وخرج بعد دقائق أو ربما ساعة، مؤكدا أن وزارة الخارجية السعودية تحقق في الأمر لتتبع تفاصيله ومعرفة ما حدث. نفى ولي العهد أن يكون الكاتب السعودي داخل القنصلية، ورد على ادعاءات تركيا في هذا الشأن بشكل واضح، قائلا: "مستعدون للترحيب بالحكومة التركية، حال كانوا راغبين في البحث عنه بالقنصلية. المبنى منطقة سيادية، لكننا سنسمح لهم بالدخول والبحث والقيام بكل ما يريدونه. حال طلبوا ذلك سنسمح لهم قطعًا. ليس لدينا ما نخفيه". أردوغان الذي يعرف جمال خاشقجي بشكل شخصي، وجمعتهما لقاءات مطوّلة، تحدث عن الأمر اليوم. لم يقدم الرئيس التركي جديدا فيما يخص ادعاء الاختفاء، ولم يعترف بالقصور الأمني. قال إن الحكومة تنتظر نتائج التحقيق وإنه "يُحسن النية بشأن أسباب الاختفاء". وبينما وعد أردوغان بنشر نتائج التحقيق لم يُقدم أي معلومة من حصيلة الأيام الستة الماضية من عمل الأجهزة الأمنية وجهات التحقيق، مكتفيا بالحديث عن الكاتب السعودي بقوله: "جمال صديق، لذلك فتوقعاتي مبنية على حسن النوايا حتى الآن، لن نصل إلى وضع غير مرغوب به". لكن في ضفة مقابلة دفع الرئيس التركي بمستشاره للخروج بتصريحات سياسية تخلو من الدبلوماسية أو الالتزام بالقانون وضوابط التحقيق المبني على معلومات. إذ خرج ياسين أقطاي مُدّعيا أن جمال خاشقجي قُتل في القنصلية السعودية، وبحسب وكالة رويترز استكمل حديثه الموجه بالقول: "السلطات ترجح أن تكون العملية تمت بمشاركة 15 سعوديا. والقول بعدم توفر كاميرات مراقبة في مبنى القنصلية أمر غير واقعي".
صلاح نجل جمال خاشقجي
أسرة خاشقجي تنسف السيناريو التركي مشهد القضية الذي يبدو مُسيّسًا وموجها لصالح رؤى جرى تبنيها قبل توفر أية معلومات، لم يُعجب أسرة جمال خاشقجي. هذا اللغط دفع صلاح، نجل الكاتب الصحفي المُختفي، لاستنكار تسييس الموضوع وتوظيفه من جانب جهات خارجية. قائلا بحسب قناة العربية التركية: "القضية أن مواطنا سعوديا فُقِد. نحن على تعاون مع السلطات السعودية لكشف ملابسات الأمر، وهناك تجاوب منها مع الأسرة. الموضوع بجملته قضية شخصية وبعيد كل البعد عن الإطار السياسي، ونحن نحتاج معلومات ذات مصداقية". ونفى صلاح علمه بوجود والده في تركيا، كما نفى علمه بالسيدة خديجة آزرو جينجز التي تدعي أنها خطيبة خاشقجي الأب، قائلا: "لا أعرف هذه السيدة ولم أسمع بها من قبل سوى من خلال الإعلام". داعيا إياها للتوقف عن الحديث عن والده. في سياق شبيه قال معتصم خاشقجي، المستشار القانوني للأسرة، إنهم يُنسّقون مع السلطات السعودية فيما يخص الأمر. متابعا: "نثق في الحكومة وما تتخذه من إجراءات. وكل الجهود يتم التنسيق فيها مع الدولة والسفارة في أنقرة". مشيرا إلى أن بعض الدول التي تتناول القضية لديها أجندات خبيثة تحاول تمريرها باستغلال موضوع جمال. وأن خديجة التي تدعي أنها خطيبته غير معروفة للأسرة وليست خطيبته من الأساس و"قد يكون حضورها وأحاديثها بغرض تمرير أجندة خاصة بها" مختتما تعبيره عن الموقف الرسمي لأسرة خاشقجي بالقول: "نعرف أهداف الذباب الإلكتروني والأبواق المسعورة التي تهاجم الوطن لأهداف سيئة، ونقول لهم اصمتوا، خاب مسعاكم وخابت نواياكم، هناك جهات وأشخاص يُسيّسون الموضوع، ويستخدمون اسم العائلة وجمال لتمرير أجنداتهم المريضة. هذا الكلام لا يمشي علينا، ولا عمرنا كنا أو سنكون أداة في يد أحد. ولاؤنا لحكامنا ودولتنا، والسعوديون جميعًا ولاؤهم لوطنهم. نحن أبناء هذا البلد والاهتمام الذي وجدناه كان بمثابة البلسم لنا".
حساب قناة الجزيرة القطرية يحسب تغريداته بسبب الارتباك
سيناريوهات تركيا المُضحكة حتى اللحظة لا يبدو أن تركيا استقرت على السيناريو الذي ستختتم به المشهد. حالة التضارب التي تتجلّى في تصريحات المسؤولين السياسيين والمصادر الأمنية وما تنقله وسائل الإعلام من تقارير ومعلومات، تُشير إلى أن المُخرج التركي يقف مرتبكا أمام خشبة المسرح، ولم يحسم أمر مشهد النهاية حتى الآن. خديجة آزرو التي تدعي أنها خطيبة جمال خاشقجي قالت في البداية إنها وقفت أمام القنصلية من الواحدة ظهرا إلى ما بعد منتصف الليل، ثم أبلغت مسؤولين بارزين بالنظام التركي، وعادت لموقع القنصلية صباح اليوم التالي. وهي نفسها التي قالت قبل يومين: "لا أعلم ما يحدث. لا أعلم ما إذا كان بالداخل أم أخذوه إلى مكان آخر". في الوقت نفسه جزم المسؤولون الأتراك الذين تواصلت معهم خديجة، ومنهم أردوغان ومستشاره ياسين أقطاي والمتحدث باسم حزبه عمر جليك والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن بأن خاشقجي ما زال محتجزا داخل القنصلية. بينما طوّرت الشرطة التركية الأمر وتمادت في السيناريو بعيدا عن خيال الرئيس وفريقه، لتجزم بأنه قُتل بالداخل. الروايات المتضاربة تشير إلى مكعب ناقص من لعبة "البازل". تركيا تعرف أكثر مما تُعلن، ويبدو أنها قررت أن تخفي كثيرا من التفاصيل دون أن تُنسّق أوراقها أو تُخبر ألسنتها العديدة بما يجب إخفاؤه، لهذا تحدث كل لسان بما يهوى، فبدت الصورة مُشوّشة ومُرتبكة ومُتناقضة. خطيبة خاشقجي المزعومة تعلن عن حوارها مع جابر الحرمي
هذا التضارب يبدو واضحا بقوة عبر المنصات الإعلامية التي تعمقت في معالجة الموضوع. الإعلام التركي المحلي تجاهل الأمر بشكل شبه تام، بينما تبنّت وكالة الأناضول الرسمية الرواية الرسمية للمسؤولين الأتراك. وانحازت قنوات الإخوان وفي مقدمتها الشرق، وقناة الجزيرة القطرية، وقناة العربي التي تبث من لندن بدعم قطري، ومواقع الجزيرة وعربي بوست لرواية القتل. وفي المسار الثالث سار موقع "الأخبار" اللبناني المملوك لحزب الله، والذي يحصل على دعم مباشر من إيران وحكومة قطر، مُدّعيًا اختطاف جمال خاشقجي ونقله إلى السعودية وإخبار الأخيرة للسلطات التركية بالأمر. النقطة الأخيرة تُثير قدرا من الدهشة حول سرّ صمت أنقرة وعدم إعلانها هذه المعلومة المهمة إن كانت حقيقية، والأهم مصدر الموقع اللبناني المنحاز للأجندة الإيرانية، خاصة في ظل الروابط التي تجمعه بالإعلامي القطري جابر الحرمي، والباحثة التركية خديجة آزرو (خطيبة خاشقجي المزعومة)، واجتماع الأخيرين قبل عدة شهور على حوار عن إيران على صفحة مجلة تركية. هذه الخيوط التي تبدو متفرقة ولا يجمعها رابط، قد تكون معقودة في نهاية امتدادها بأصابع كف واحدة. هذا الأمر تدعمه شواهد أخرى مهمة. قناة الشرق الإخوانية تقود حملة التدوين عن خاشقجي
رواية القتل التي تبنتها قناة الجزيرة القطرية وفريق عملها وموقع عربي بوست، استنادا إلى تصريح سرّبته قيادات بارزة بالشرطة التركية لوكالة رويترز مساء أمس، يبدو أنها فقدت الداعمين في أروقة النظام التركي، لصالح رواية الاختفاء طويل الأمد دون معلومة واضحة، بغرض تجنب تسخين المشهد إلى حدّ الاشتعال، وتقديم دليل نهائي مُغلق على فشل الأجهزة الأمنية التركية. يبدو أن إعادة قراءة الأجهزة التركية للمشهد وجدت أن الفرضية المفتوحة والمُعلّقة أفضل من الفرضيات المُغلقة. وفق هذا المنطق خرج أردوغان بنفسه متحدثا عن اختفاء ومؤكدا ضمنيا بقاء خاشقجي على قيد الحياة، والأمر نفسه أكده مستشار أردوغان ومتحدثا الرئاسة والحزب الحاكم. تبع هذا التحوّل تراجع الجزيرة والمنصات القطرية والإخوانية عن رواية القتل، بل وحذف التغريدات والأخبار التي تدفع في هذا المسار. هكذا بدا أن المُخرج الذي كان نائما قد استيقظ وعاد إلى خشبة المسرح ليُحدّد مسار النهاية ويُغير طريقة إغلاق الستار.
مصلحة تركية قطرية مباشرة إذا كانت رسائل جمال خاشقجي في الصحافة العالمية محدودة الأثر فيما يخص السياسة السعودية وتنامي علاقاتها الإيجابية مع دول العالم. وكان خاشقجي نفسه محسوبا على الدولة السعودية ومؤسساتها، ولا يعتبر نفسه معارضا، ويُقرّ بولاية الملك سلمان وبيعة ولي العهد. هنا يُصبح السؤال عن مكاسب المملكة من اختفاء صديق قديم ومتحفّظ حالٍ، أمرا منطقيا للغاية، وضروريا أيضا. بالمنطق العقلي البسيط سيُفكر المسؤولون السعوديون، لو افترضنا أن لديهم تحفظا على أداء جمال خاشقجي، في أن أصابع الاتهام ستتجه إليهم في المقام الأول بمجرد اختفائه. هذه النقطة وحدها كفيلة بنسف احتمال أن تكون رواية الاختفاء داخل القنصلية صحيحة. يُضاف لهذا الأمر أن القنصلية السعودية في إسطنبول ليس في مقدورها إبقاء الرجل مُحتجزا بشكل سري للأبد، ومن الصعب الحديث عن نقله من المبنى إلى خارج تركيا. كما أن المملكة التي تشهد علاقتها بتركيا توترا كبيرا في الشهور الأخيرة، على خلفية تحركات نظام أردوغان المُستهدفة للمصالح العربية في العراقوسوريا ولبنان واليمن وليبيا، وتدشين قاعدة عسكرية ضخمة في قطر عقب الخلاف بين الدوحة والرباعي العربي (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) على خلفية دعم الأخيرة للإرهاب واستهدافها لمصالح جيرانها والأمن القومي للمنطقة، لا يمكن معه افتراض أن تُغامر القنصلية السعودية باختطاف خاشقجي مع انسداد كل الطرق والمسالك لإخفائه أو نقله خارج الأراضي التركية. بمجموع هذه النقاط يُصبح الحديث عن وجود جمال خاشقجي في القنصلية، أو اصطحابه منها إلى مكان مجهول داخل تركيا أو خارجها، كلاما غير منطقي بالمرة، وربما يدخل في عداد المزاعم والاختلاقات بهدف تحقيق أجندة ما، أو التغطية على أمور بعينها، أقلها فشل الأجهزة التركية في حماية الكاتب السعودي، أو كشف ملابسات غيابه الطارئ. حساب قناة الجزيرة يحذف تغريداته
على الجانب المقابل تشير نظرية المصلحة بمنطق "فتّش عن المستفيد" إلى احتمالات عديدة في هذا الشأن. النشاط الإعلامي المبكر والكثيف بشكل مبالغ فيه لمنصات قطر والإخوان وإيران، دون معلومة موثقة وبروايات عديدة ومُتضاربة، يُعمّق الشبهات ويزيد علامات الاستفهام. قطر تخوض صراعا مع المملكة والرباعي العربي وتعاني اقتصاديا وسياسيا جراء الحصار العربي، كما تشهد تعنّتًا من الإدارة الأمريكية في ضوء تقارب الرياضوواشنطن، هذا الأمر قد يُرجّح أن من مصلحة الدوحة أن تواجه السعودية أزمة دبلوماسية مع دولة إقليمية كبرى، وأن تظهر في صورة الخارق للقانون والمتجاوز للأعراف الدبلوماسية والاتفاقيات الدولية. الأمر نفسه بالنسبة لإيران التي توشك على الاصطدام الكامل مع واشنطن، وتخسر ذراعا مهمة تحت قصف التحالف العربي للحوثيين في اليمن، وتقترب من مغادرة سوريا بعد انتصار الجيش العربي وضغوط روسيا، وتتقلص مساحات نفوذها في العراق بدفع من المعارضة الشعبية والتوافق بين الفرقاء السياسيين. بالتأكيد تشعر طهران أن المملكة تلعب دورا في كل هذه التقلبات ودوائر الحصار الآخذة في الضيق حول عنقها، وتُريد القصاص منها بوصفها بلدا سُنّيًّا كبيرا ومقاوما للمدّ الشيعي، وأيضا لصفتها حليفا للولايات المتحدة. تُركيا نفسها ربما سعت لتوريط المملكة فيما تعتقد أنه فضيحة دولية، بغرض الابتزاز الدبلوماسي أو تقليص عدد البعثة السعودية في ضوء تحول الساحة التركية إلى ملعب مفتوح للإخوان والميليشيات السورية وعناصر داعش وكثيرين من الإيرانيين والحوثيين الذين دخل أردوغان في تحالف معهم قبل شهور، رغم صراع الطرفين في سوريا. ويظل ضمن الاحتمالات القائمة رغبة أنقرة في تأديب جمال خاشقجي، الذي انتقد الأخبار المتداولة قبل شهور عن تنفيذ شركة تركية لأعمال إنشاء سفارة الولاياتالمتحدة في القدس. وهو الموقف الذي واجه بسببه وقتها هجوما حادا من الإعلام التركي وحتى من ناشطين وحسابات شهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. والمفارقة أن هذه الحسابات تنشط في قضايا بعينها، وتتبنى دائما خطابا يكاد يتطابق مع خطاب أردوغان والدولة التركية. حساب تركي شهير يهدد خاشقجي
بهذا المنطق الإحصائي نقف أمام روايات تركية عديدة ومُتضاربة تُشير إلى احتمال تورط المملكة العربية السعودية في إخفاء جمال خاشقي، وبعيدا عن حقيقة أن قدر التضارب في هذه الروايات كافٍ لنسفها، فإننا بتجاوز هذه النقطة سنجد أننا إزاء رواية سعودية رسمية مدعومة بمبادرات سياسية بفتح القنصلية للصحفيين، ودعوة الأجهزة التركية لدخول المقر وتفتيشه. وبجانب هذه الرواية هناك عشرات المؤشرات والقرائن تُشير إلى ثلاثة أطراف مستفيدة من اختفاء خاشقجي. أي أن احتمالات حلّ اللغز تتوزع على أربعة أصابع، إصبع تشير إلى السعودية لكنها تبدو إصبعا مبتورة ومُلوّثة وتتذبذب بين جهات عدّة، وثلاث أصابع طويلة وثابتة تُشير إلى ثلاثة قطر وتركيا وإيران. بمعنى أن 25% من احتمالات الإدانة تشوبها الشكوك والشبهات وتبددها مبادرات السعودية وقنصليتها في إسطنبول، و75% من الشواهد والقرائن تدفع في اتجاه آخر، يُعزّزه توفر القدرة لهذه الجهات على إخفاء خاشقجي داخل تركيا أو خارجها، دون أن تعترض الدولة التركية، أو تفضح أجهزتها الأمر. في مسألة إخراج خاشقجي من تركيا لا يبدو أن الاحتمالات عديدة. إما أن يخرج الرجل عبر المطار وهذا الأمر يسعب تغطيته بالأوراق أو المراقبة بالعين المجردة، كما يبدو تصور إخراجه في حقيبة دبلوماسية تصورا ساذجا نوعا ما في ظل الوفرة الواضحة في بنية خاشجقي البدنية. وإما أن يخرج عبر البحر، ويصعب أيضا تصور أن يُصطحب الرجل إلى مركب في مضيق البسفور ليبدأ الملاحة والخروج من المياه الإقليمية دون اكتشاف خفر السواحل والبحرية التركية. على الجانب المقابل يُمكن لتركيا، وربما قطروإيران بموافقة من أنقرة، إخراج خاشقجي من إسطنبول إلى أي مكان في العالم عبر الجو أو البحر. إذ من المؤكد أن الأجهزة التركية لن تعترض هذا الأمر في إطار الاتفاق المسبق، كما يُمكن إخراجه من خلال الحدود التركية مع العراق أو سوريا، وعلى هذا الجانب لا يمكن لأحد أن يعبر هذا الخط الملتهب بأمان سوى الأتراك والإيرانيينوالقطريين وعناصر داعش. فالجيش التركي يُشدد الرقابة على خطوط التماس مع العراقوسوريا بالنظر إلى أنها تُمثّل خطوط الإمداد المالية واللوجستية والبشرية للميليشيات المسلحة في سوريا، ومنطلق العمليات العسكرية التركية في المناطق الكردية بالعراق وشمال سوريا. يُمكن الجزم بأنه يستحيل عمليا أن تستخدم السعودية أو غيرها من الدول العربية باستثناء قطر هذا المسار للعبور بنفسها أو تسهيل عبور أطراف أخرى. مذيع الجزيرة فيصل القاسم يحذف تغريدته
لهذا السبب لن يعود جمال الموقف السعودي الواضح حتى الآن أن المملكة لا تتوفر لديها معلومات بشأن وضع جمال خاشقجي ومكانه الحاليين. وما قاله السفير وليد الخريجي وقنصل الرياض في إسطنبول يؤكد تحرّك السلطات السعودية للتنسيق وتبادل المعلومات مع الجهات التركية للوصول إلى معلومات بشأن خاشقجي. بهذا الوضع تُصبح الكرة في ملعب الأجهزة الأمنية وجهات التحقيق التركية، التي تملك الأرض وتسيطر على الطرق والمنافذ البحرية والبرية والجوية. لا يمكن الوصول إلى جمال دون قرار تركي، ولا يمكن إخفاؤه بشكل كامل ونهائي دون رغبة تركية. جسارة الموقف السعودي ومبادرة فتح أبواب القنصلية للتفتيش، رغم كونها أرضا سيادية يحميها القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، يؤكّدان أن خاشقجي ليس محتجزا داخل المبنى، وأن المملكة لا تخشى عواقب تطور الأمر. كما أن صعوبة إخراج الرجل من تركيا بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية والرقابية والمنافذ الحدودية، تؤكد استحالة إخراجه من الحدود دون موافقة السلطات التركية. بالتأكيد لم تحصل السعودية على موافقة تركية بإخراجه، ولن تُغامر بإخفائه على أمل أن تحصل على الموافقة. تبدو المسارات مُغلقة، أو موجّهة في اتجاه واحد.. لا أحد يمكنه إخفاء خاشقجي إخفاء طويل الأمد سوى الأجهزة التركية، ولا أحد يستطيع إعادته سواها أيضا. إذا افترضنا أن لُعبة سياسية جرى إخراجها بغرض ابتزاز المملكة العربية السعودية أو إحراجها، فمن غير المتوقع أن تتراجع الإدارة التركية خطوة للخلف كاشفة عن تفاصيل لعبتها. من غير المحتمل أن تُبادر بإظهار جمال خاشقجي. والأمر نفسه إذا كان طرف ثالث قد تورّط في إخفائه، سواء قطر أو إيران أو غيرهما. ظهور الرجل يُعني كشف اللعبة والتسبب في إحراج وإدانة إقليمية ودولية واسعة، واستمرار غيابه يُمثّل إدانة مباشرة للسلطات التركية وأجهزتها الأمنية. في الحالتين على النظام في أنقرة أن يتحمل الفاتورة، لكنه سيُوازن بالتأكيد بين الاحتمالات ويختار الفاتورة الأقل. بالنظر إلى أن ظهور خاشقجي يُعني كشف هوية المتورط في إخفائه، وتبرئة القنصلية السعودية بجانب كشف أكاذيب المسؤولين الأتراك ونسف تصريحات الشرطة عن القتل. يمكن الجزم بأن الكاتب السعودي الموشك على إتمام عامه الستين لن يظهر. إذا كان الاختفاء يُدين جهاز الشرطة وجهات التحقيق ويُثبت العجز والتقصير في حقها، فإن الظهور يكشف الجاني وينسف الروايات السابقة، ولا يخلو أيضًا من فضيحة للأجهزة الأمنية وتأكيد لعجزها. وإذا كنا إزاء خسارة سياسية ودبلوماسية معجونة بالفضيحة، أو فضيحة فقط، فمن المؤكد أن أجهزة الدولة التركية ستضع يدها في جيبها وتختار الفاتورة الأقل. هكذا سيظل الملف مُعلّقا في عملية اختفاء مفتوحة وطويلة الأمد، تشبه اختفاء الإمام الشيعي اللبناني موسى الصدر في ليبيا قبل أربعين سنة من الآن. يمكنك الآن تخيل أردوغان وهو يفتح حافظة نقوده، وتوقّع المصير. الفاتورة الأقل تُعني بالضرورة أنك لن ترى خاشقجي مرة ثانية.