جاء السلطان عبد الحميد علي مسند الخلافة العثمانية المتداعية الأركان ، ولا ريب أن الرجل كان علامة هامة في تاريخ الدولة العثمانية . حيث استطاعت شخصية عبد الحميد القوية أن تجمد الدعوة إلى القوميات المختلفة التي تضمها الدولة والتي استشرت بصورة كادت أن تعصف بالبقية الباقية من دولة بني عثمان . وكان سلاحه لذلك رفع شعار (يا مسلمي العالم اتحدوا). وكانت الأجواء الدولية تستعد لالتهام الدول الإسلامية الواهنة القوى وتقسيمها . وانطلقت في عهد السلطان عبد الحميد الدعوة لإحياء القومية العربية ، وتجلت الدعوة لذلك في مؤتمر باريس سنة 1913 م الذي يكاد كثير من كتاب القومية العربية يعتبرونه أساسا للقومية الحديثة، وكانت أهم مطالبهم جعل اللغة العربية لغة رسمية في البلاد العربية. واضطرت الحكومة لأول مرة إلي أن تفاوضهم وترضيهم بإدخال 3 وزراء عرب وخمسة من الولاة العرب كذلك في سلك الدولة. كما كانت هناك عوامل هامة كان لها أثر كبير في تأجيج نار القومية العربية في الربع الأول من القرن العشرين ، ومن أهم هذه العوامل بروز جمعية الاتحاد والترقي وسطوتها علي السلطان عبد الحميد بفرض عملية التتريك على جميع المحافظات العربية وغيرها. ففرضت التركية في الدواوين والمدارس والمناهج. وبدأت عملية التتريك كذلك في أجهزة الدولة ، وقد ظهر هذا واضحا في انتخابات مجلس النواب الذي انتخب على أثر إعلان الدستور سنة 1908 فأشرفت جمعية الاتحاد والترقي على الانتخابات لتكون النتيجة في جانب الجنس التركي فكانت النتيجة أن نجح 150 من الأتراك و 60 من العرب بينما العرب متفوقون في عدد السكان بنسبة 5: 2. ولم يكن أمام العرب وقتها إلا إنشاء الجمعيات السرية والعلنية التي تنادي بالقومية العربية وتنادي بفصل الدول العربية عن الأتراك ولو على الأقل إدراك الحكم الذاتي في داخل الدولة العثمانية . وأن يكون للعرب حق إدارة أمورهم الداخلية من تعليم واقتصاد وثقافة ، وكذا مشاركة الدولة العثمانية في الأمور الخارجية كالدفاع وغيرها. كان العرب يبحثون عن أي مخرج يحقق لهم مطالبهم ، فاتصل زعماء عرب الشام بفرنسا. مما جعل الوالي العثماني جمال باشا علي الشام يقتحم السفارة الفرنسية في كل من بيروت و دمشق ويضبط وثائق فيها تثبت اتصال قادة التنظميات والجمعيات العربية بفرنسا وتنادي بانفصال سوريا عن العثمانيين، إلا أن جمال باشا أراد تهدئة لخواطر العرب وكسب لهم أن يغض الطرف عن القضية طمعا في وقوف العرب لجانب تركيا في الحرب.. ولكن بعدما أحس جمال باشا بنية الشريف حسين شريف مكة والحجاز بدخول الحرب ضد تركيا والى وجانب بريطانيا استشاط غضباً وأمر بإعدام 11 شخصية عربية بعد المحاكمة العسكرية في عاليه. وبالفعل شنق 21 شخصية عربية أخرى منهم عبدالحميد الزهراوي (رئيس مؤتمر باريس وعضو مجلس الأعيان التركي) وسليم الجزائري مساعد عزيز باشا المصري في الجمعية القحطانية. ولقد أحدثت هذه الإعدامات هزة عنيفة في العالم العربي، ولقد نفذ جمال باشا الإعدام بعد توسط الشريف حسين وابنه فيصل إلا أنه لم يصغ إليهما. وقد كان الأمير فيصل بن الحسين آنذاك في دمشق فرمى كوفيته على الأرض وداسها وقال كلمته الشهيرة : طاب الموت يا عرب . والجدير بالذكر أن الشريف حسين عاش في تركيا ستة عشر عاما إذ كان السلطان عبد الحميد يخشى منه ويعلم أن له ميولاً للسلطة ويملك تحريك الشارع العربي ، وبعد إعلان الدستور سنة 1908 اختارته جمعية الاتحاد والترقي ليكون أميرا لمكة وعارض عبد الحميد في هذا التعيين . وقد كان الشريف حسين يتلمس الفرصة للتخلص من الحكم التركي والثورة عليه وإعلان نفسه سلطاناً علي العرب خصوصاً وأنه أحس أن الاتحاديين يريدون التخلص منه. وكان ولده عبدالله بن الحسين آنذاك نائبا في البرلمان التركي وقد اتصل بكتشنر المعتمد البريطاني في مصر ورونالدستورز المستشار الشرقي في دارالاعتماد البريطاني. وأطلعه على النفور الشديد بين أبيه و الأتراك وسأله عن إمكانية وقوف بريطانيا بجانب الشريف فيما إذا أعلن الشريف الحرب على تركيا إلا أنه لم يلق أي تشجيع منهما وقال كتشنر: ليس من المحتمل أن تقف بريطانيا بجانب أبيك . ونشبت الحرب الكبرى في سنة 1914 وكان عبد الله متحمسا لإعلان الحرب على تركيا، بينما كان الأمير فيصل بن الحسين يرى الوقوف معها. وفي تلك الفترة زار فيصل دمشق وإستانبول، وفي دمشق انضم إلى الجمعية العربية الفتاة . وتغيرت نظرته قبل الدولة التركية تماما وصار مثل أخيه عبد الله مؤيداً للثورة عليها . وعليه أعلن والده الشريف الحسين الحرب على تركيا من جانب قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب بالمدينة بعد أن استجابت بريطانيا له ووعدته باستقلال بلاد العرب وبتتويجه ملكا عليها، وكان كتشنر قد أصبح وزيرا للحربية البريطانية وتسلم مكماهون معتمدا بريطانيا في مصر، وحدثت المكاتبات المعروفة الحسين – مكماهون . واندفع الشريف حسين بكل طاقته يؤجج نار الحمية العربية ضد الأتراك. وبالفعل هُزم الأتراك. وحصلت اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا وأعطيت فلسطين لليهود بوعد بلفور ، وكان الجزاء الجميل للشريف حسين أن نفته بريطانيا ست سنوات وسلبت ملكه، ولقد كانت الصدمة عنيفة لأعصاب الشريف حتى داهمه المرض وذاب جسده حسرة وألما، وكان يصب جام غضبه طيلة حياته على مكماهون ولويد جورج - الوزير البريطاني المعروف. ولقد حذر بعض الصادقين العقلاء الشريف حسين من مغبة غدر الإنجليز ومن هذه الفاجعة المتوقعة فقد كتب شكيب أرسلان إلى الشريف عندما بلغه عزم الشريف على غزو سوريا ضمن جيوش الحلفاء قائلا : أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء انجلترا على جزيرة العرب وفرنسا على سوريا واليهود على فلسطين ؟ . وفي هذا المقام يقول لورنس في أعمدة الحكمة السبعة : لقد كنت أعلم أننا إذا كسبنا الحرب فإن عهودنا للعرب ستصبح أوراقا ميتة ولو كنت ناصحا شريفا للعرب لنصحتهم بالعودة إلى بيوتهم. لقد كان قادة الحركة العربية يفهمون السياسة الخارجية فهما عشائريا بدويا وكان البريطانيون والفرنسيون يقومون بمناورات جريئة اعتمادا على سذاجة العرب وضعفهم وبساطة قلوبهم وتفكيرهم ولهم ثقة بالعدو...إنني أكثر ما أكون فخرا أن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضتها لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت انجليزي واحد ، ويقول اليهودي وايزمان لقد قدم لنا لورنس خدمات جليلة ، هذا هو لورنس الذي كانوا يسمونه - ملك العرب غير المتوج - .. وأمجاد يا عرب أمجاد .