• احتمالات الثورة مازالت قائمة ومخاوف من توالى الانفجارات السياسية فى المنطقة • ظهور داعش جاء نتيجة لانتكاسة الربيع العربى وليس سببه الربيع العربى • الثورات العربية دفعت ثمن غياب القيادة القادرة على ترجمة أمانى الأجيال الجديدة • القوى الداعمة للديمقراطية سقطت فى فخ الاختيار بين النظام القديم والرجعية الدينية • على المجتمعات العربية إيجاد البديل لتفادى الصدامات المدمرة بين الأنظمة الدكتاتورية والأصوليات المسلحة • الأصولية الإسلامية قوة مضادة أيضا.. وهى ظاهرة مؤقتة ستزول إن عاجلا أو آجلا • القول بأن الدول العربية غير مؤهلة لقيام الديمقراطية مرفوض شكلا وموضوعا «المشكلة تكمن فى عدم وجود قوة تقدمية قادرة على شق طريق تقدمى يشكل بديلا لكل من النظام القديم والمعارضة الرجعية»، بهذه الكلمات يضع جلبير الأشقر خلاصة قراءته للوضع الراهن فى بلدان الربيع العربى. قراءة صفحات انتكاسة الربيع العربى هى جزء من فكرة «السيرورة الثورية طويلة الأمد» التى يعكف الاشقر، الباحث اللبنانى واستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية فى معهد الدراسات الشرقية والافريقية فى جامعة لندن، على صياغتها حاليا لإصدارها فى كتابه المرتقب ربيع العام الحالى بعنوان، «انتكاسة الانتفاضة العربية أعراض مرضية». كتاب الاشقر المقبل هو فعليا الجزء التالى من قراءة بدأها مع كتابه الصادر عن دار الساقى فى نسخته العربية عام 2013 تحت عنوان «الشعب يريد»، حيث يسعى لتقديم نظرة معمقة فى جذور ما سماه بالانتفاضات العربية، سواء من حيث الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو من حيث طبيعة الانظمة الحاكمة فى هذه الدول والسياقات الاقليمية والدولية للمواجهات التى جرت بينها وبين الجماهير المطالبة ب«العيش» و«الحرية» و«العدالة الاجتماعية». فى الصفحة الاخيرة من «الشعب يريد»، الذى انتهى الأشقر من كتابته فى اكتوبر 2012 مع تصاعد إيحاءات الانتكاسة القادمة، كتب الاشقر: «الانتفاضة العربية ليست سوى فى بداياتها.. المستقبل يدوم طويلا، كما كتب (الزعيم الفرنسى شارل ديجول) فى مذكراته خلال الحرب: انه لتعبير جميل عن الأمل». وفى «انتكاسة الانتفاضة العربية أعراض مرضية» ينطلق الاشقر من حيث انتهى بالسعى، كما قال ل«الشروق» فى حوار عبر الهاتف من لندن، «لتحليل السنوات الاخيرة الحاسمة والتى بدأت عام 2013 بمنعطف رجعى للموجة الثورية التى بدأت من تونس فى ديسمبر 2010». ويقول الاشقر إن هذه هى بامتياز «مرحلة ثورة مضادة»، يسعى فى كتابه الجديد لقراءة جذورها فى ضوء ما قدمه من قراءة متشعبة لجذور الانفجار المسمى اجمالا بالربيع العربى. وبحسب الاشقر فإن كتابه القادم سيركز بالاكثر على الاوضاع فى مصر وسوريا، بعد ان كان كتابه السابق قد استعرض الاوضاع فى هذين البلدين مع البلدان الاربعة الاخرى التى شهدت دفقات للربيع العربى: تونس وليبيا واليمن والبحرين. «فيما يخص مصر أحاول أن أعود إلى بداية الدينامية السياسية لفهم حقيقة ما جرى فى 2013، أما فى سوريا فأحاول قراءة وملاحقة التطورات التى حولت الامر فى هذا البلد من مطالبة بالديمقراطية مثل غيره من بلدان الربيع العربى فى حينه إلى حرب اهلية تكاد تغيب عنها القوى الديمقراطية». وبحسب الاشقر فإن الانفجار بدأ على اساس من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فصلها فى كتاب «الشعب يريد» بحديث واضح عن انخفاض معدلات النمو فى الدول التى شهدت موجات «السيرورة الثورية الممتدة» كما وغيرها من دول المنطقة فيما مثل مشهدا للتنمية المعاقة التى ساهم فى تدهور أوضاعها ما بعد هزيمة 1967 الفوران البترولى المرتبط بارتفاع مد الرجعية الدينية القادمة من المملكة العربية السعودية وتزامن ذلك مع تزايد الاقصاء الاجتماعى وانتشار المساحات الواسعة الواقعة تحت القهر الاقتصادى الاجتماعى للا مساواة فى أطر العشوائيات والقطاع غير الرسمى للعمل الذى يعبر عنه بأيقونية حالة الشاب التونسى محمد بوعزيزى واتساع البطالة غير المرصودة فيما جعل مديرة صندوق النقد الدولى، بحسب ما يذكر الاشقر، تقر بعد انطلاق انتفاضات الربيع العربى ان النمو الذى لا يمس المواطنين لا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق قدر كبير من الاستقرار المستديم. أما فيما يخص الانتكاسة، يقول الاشقر، إن العامل السياسى كان هو المتحكم بالاساس فيها، والشق الاول من الانتكاسة حسبما يطرحه الاشقر فى حديثه مع «الشروق» يتعلق ب«القيادة»، ويقول ان «افتقار الانتفاضة العربية إلى قيادة جديرة بتمثيل امانى الجيل الجديد الذى هو اساس الحراك الثورى كان واضحا للغاية»، ويضيف «وعلى هذا فإن هذه الامانى التى تغنت بها الشعوب لم تجد قوة منظمة تمثلها، أو حتى تقوم بصياغتها فى برنامج حكم له مصداقية». ويدفع الاشقر بأن القيادات المفترضة لهذه الانتفاضات سواء من قطاعات اليسار أو قطاعات ما يسمى اجمالا بالليبراليين كانت ضعيفة على الصعيد التنظيمى فى معظم البلدان، «ولكن ايضا ضعيفة من المنظور الاستراتيجى وهذا هو الاهم»، وهو ما افسح المجال «امام القوتين المضادتين للفعل الثورى نفسه بتصدر المشهد اولا، ثم التناحر فيما بينهما ثانية». «ليست القوة المضادة للثورة فى دول الربيع العربى هى فقط النظام القديم، ولكن توجد قوة مضادة أخرى هى المعارضة القديمة المتمثلة فى الاصولية الاسلامية التى تطورت على انقاض المد القومى الناصرى منذ السبعينيات، وهذه الاصولية تتناقض، شأنها شأن الانظمة التى أزيحت، مع الامانى التى عبرت عنها الشعوب فى 2011»، بحسب الاشقر. ويضيف انه «لما حدثت الثورات، استطاعت هذه القوى الرجعية ان تستفيد منها اكثر من هؤلاء الذين اطلقوا الثورة انفسهم، لأنها تعتمد على قوة تنظمية كبيرة وايضا على دعم خارجى». ويقول الاشقر إن «الانتخابات الاولى فى تونس بعد الإطاحة ب«بن على» انتجت مساحات لقوة لم تكن مبادرة إلى الثورة، لكنها استفادت من تصدرها مشهد المعارضة مثل حالة الإخوان المسلمين فى مصر وحازت دعما قطريا تلفزيونيا وماليا». ويشير الاشقر للحالة المصرية حيث اعاد السلفيون، الذين كانوا من دعائم النظام القديم، تمركزهم للسعى نحو الاستفادة من الانتفاضة. فى مصر ايضا، يذكر الاشقر فى مسعى قراءته لصفحات انتكاسة الانتفاضة، بما أقدمت عليه القوى الداعمة للديمقراطية من الوقوع شبه الطوعى فى فخ الاختيار بين النظام القديم والرجعية الدينية، خاصة فيما تمثل من استقطاب ساد مع الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، حيث كان العنوانان المطروحان إما أحمد شفيق، العسكرى السابق الذى كلفه حسنى مبارك رئاسة الوزراء مع اندلاع مظاهرات يناير، أو محمد مرسى ممثل جماعة الإخوان المسلمين الذى يروى الاشقر فى كتابه «الشعب يريد» عن جوانب من مفاوضاتها مع النظام اثناء السنوات الخمس الاخيرة لحكم مبارك لنيل نصيبا فى مجلس الشعب. ويعتبر الاشقر ان حالة المرشح الناصرى حمدين صباحى هى نموذج لهذا الفخ الذى وقعت فيه القوى المطالبة بالديمقراطية، حيث ذهب للتحالف مع الإخوان المسلمين فى 2011 بينما ذهب للتحالف مع الجيش فى 2013. وفى الحالتين، يقول الاشقر، إن صباحى وغيره ممن يمثلون القوى الداعمة لتحقيق الديمقراطية سعت للتحالف مع طرفى النقيض المتفقين على رفض فعل وفكر الثورة، بدلا من القيام بما كان ينبغى عليهم من السعى لشق طريق ثالث للفعل السياسى فى المجتمع. وفى قراءته ايضا للانتكاسة التى تعرضت لها الانتفاضة فى مصر رغم إصراره على استمرار السيرورة الثورية الممتدة يقول الاشقر إن تفاقم الأوضاع الاقتصادية التى لم تكن مواتية أبدا فى المقام الاول ازداد أكثر مع انعدام الاستقرار السياسى. ويرى الاشقر ان استمرار التراجع الاقتصادى وما يصاحبه من استمرار للا مساواة الاقتصادية والمجتمعية وغياب أفق الاستقرار السياسى يعنى ببساطة ان «احتمالات الثورة مازالت قائمة» حتى وان خفتت الطاقة لاستعادة الحراك «مؤقتا»، مرجعا فى الوقت نفسه ما يسميه «تراجع النضالات» لما يوصفه ب«التراجع الشديد فى الحريات الذى أخذ الامور لوضع أكثر قمعية مما كان عليه قبل يناير 2011». «إن المنطقة كلها قادمة على انفجار بعد آخر بفعل القابلية الثورية بادية الأسباب الاقتصادية والاجتماعية وايضا السياسية»، بحسب ما يقترح الاشقر، ويلفت إلى انه مع استمرار الثنائية السياسية القائمة على النظم الاستبدادية، فى صيغتها العسكرية أو الملكية، مقابل الاصولية الدينية فى صيغتها البراجماتية أو الوهابية ف«ليس هناك من حتمية تاريخية بأن السيرورة الثورية سوف تؤدى إلى نتائج ايجابية، والتاريخ يشهد تأزم فى مجتمعات يليه الانهيار الكامل فى حالات غياب البديل التقدمى». «هذا ما حدث مع انهيار الدولة العباسية على سبيل المثال، ونحن نبدو اليوم مهددين بوضع مثل هذا ان لم تظهر القيادات وانا هنا لا اتحدث عن الزعامات بالمفهوم القديم القادرة على طرح نهج للمستقبل وجمع التأييد حوله والدفاع عنه توطئة للانتقال عبره من الوضع القائم إلى الديمقراطية السياسية والاجتماعية»، بحسب الاشقر الذى يصر على الرفض الكلى والمباشر لأحاديث من نوع ان الدول العربية غير جاهزة بعد للديمقراطية أو ان الديمقراطية ليست بالنظام القابل للتطبيق فى الدول التى بها أغلبية سكانية مسلمة أو ما إلى ذلك من الافتراضات التى تتردد فى مساحات من العواصم العربية والغربية على حد سواء. ويخشى الاشقر فيما يشرح ان تكون نتيجة الانهيار الحادث مع الانفجار الحتمى فى ظل غياب الطرح المؤدى إلى استشراف الديمقراطية والاستقرار هو السيناريو الذى يصفه بصدام الهمجيات وهو صاحب كتاب تحت هذا العنوان تمت ترجمته إلى 13 لغة: الهمجية الإمبريالية والهمجية الاصولية المضادة، كما يقول. «لقد رأينا مشهدا محتملا لهذا السيناريو الكارثى فى مواجهة الولاياتالمتحدةالامريكية مع تنظيم القاعدة»، يقول الاشقر. ويعتبر الباحث واستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية ان هذا الصدام له مشاهد لا يمكن اغفالها فى سوريا، حيث يقع بين همجية النظام وهمجية داعش وما شابهها، والشعب السورى واقع بين النارين. «هذا وضع خطير لو استمر، ووضع خطير اكثر لو اتسع نطاقه»، بحسب ما يحذر الأشقر الذى يصر ان الوضع فى سوريا هو أسوأ من الوضع فى ليبيا ليس فقط لأن حجم الدمار وسيل الدماء فى سوريا هو الافظع فى كل بلدان الربيع العربى، بما فيها اليمن التى دخلت هى أيضا فى حرب أهلية مع تدخل عسكرى خارجى، ولكن لأن ما حدث فى ليبيا فى ربيع 2011 هو انهيار الدولة التى كانت متمحورة على شخص معمر القذافى بما يسمح حتى ولو بعد جولات من الدماء والتناحر ببناء دولة جديدة، أما سوريا فهى الحالة الكلاسيكية لقديم ينازع لكنه لم يمت بعد، وجديد لم يولد بعد ولا يستطيع احد ان يعرف متى سيولد. إن البديل التقدمى ضرورى إذن، حسب أطروحة الاشقر ليس فقط لتحقيق الديمقراطية والعدالة وصولا إلى الاستقرار ولكن ايضا لتفادى صدام الهمجيات بين الانظمة الدكتاتورية والاصوليات المسلحة، ويقول «ان الربيع العربى فتح الباب فى حينه أمام الحديث عن نهاية ظاهرة القاعدة من خلال تحقيق الديمقراطية والعدالة وتغييب السياق الذى يتمادى فيه هذا التنظيم أو خليفته الاكثر همجية المتمثل فى داعش». ويلاحظ ان ظهور داعش جاء موازيا لانتكاسة الربيع العربى وليس موازيا الانتفاضة الربيع العربى، كما يروج هذا النظام الدكتاتورى الملكى أو ذاك النظام الدكتاتورى العسكرى. ويذكر الأشقر ان الطريق نحو الانتكاسة الحالية بدأ مبكرا جدا مع اولى ايام الثورة، حيث سعت انظمة رجعية اقليمية ودولية قلقة من رياح الربيع لدعم بدائل رجعية اصولية عن الانظمة المهددة بالسقوط، وذلك من اجل منع السيرورة الثورية من سلوك طريق التجذر الديمقراطى والاجتماعى. وكما يلفت الاشقر فى كتابه «الشعب يريد» فإن القول بأن الولاياتالمتحدة أو الغرب عموما هو من قرر احداث الربيع العربى هو قول ساذج، فإنه يشير فى حديثه مع الشروق إلى أن من يتصور ان الولاياتالمتحدة يمكن ان تساعد الانظمة الاكثر قمعية التى أتت على انقاض امانى الربيع العربى فى بلدانه على انهاء السيرورة الثورية هو ايضا موهوم. ويستبعد الاشقر ان تكون للأصولية الاسلامية، خاصة المتمثلة فى الحركة السلفية ولكن ايضا فى الإخوان المسلمين، دور مهيمن فى الانفجار القادم لأن هذه القوى فشلت فى اختبار الموجة الاولى للانتفاضة ليس فقط داخليا، حيث لم يكن طرحها الاقتصادى مبتعدا بحال عما تقدمه الانظمة الدكتاتورية الا فيما خص الشعارات الاخلاقية، ولكن خارجيا ايضا، حيث ان الغرب الذى قرر القبول بها رغم تحسبه لم يجد فيها ضالته المحققة للاستقرار الممزوج بالتعاون. ويذكر بأن ما يصفه ب«التسونامى الإسلامى» الذى جاء به الربيع العربى يمثل ارتفاع ما قبل الانخفاض لظاهرة الاصولية الاسلامية والتى يصر انها مؤقتة وانها سوف تزول بدورها عاجلا أو آجلا عندما يظهر بديل تقدمى ديمقراطى وهى التى ظهرت تاريخيا عند زوال مرحلة الدكتاتورية التقدمية من الطراز الناصرى. بالمقابل يتوقع الاشقر ان الانتفاضة القادمة ستكون كما سابقتها مستلهمة من قطاعات الشباب ولكن ايضا وربما اكثر مما سبق من القطاعات العمالية والشرائح المتواضعة فى المجتمع ولكن ايضا الشرائح المتعرضة للقدر الاكبر من الاضطهاد ولا سيما الحركات النسائية كون هذه هى الجماهير الباحثة عن الحرية والعدالة بعيدا عن ثنائية الدكتاتورية مقابل الاصولية التى لا تقدم حلولا للمسائل الرئيسية والبديهية المتعلقة بالنمو ونصيب الفرد من النمو والحريات والتزام الحكم بها.