منذ أيام قليلة، أصدر أكثر من 1000 أكاديمى تركى عريضة تطالب الأجهزة الرسمية بوقف قتل وتعقب الأكراد فى جنوب شرق البلاد، وتدين استباحة المدنيين الأكراد وانتهاك حقوقهم مع استمرار المواجهات العسكرية بين الجيش التركى وبين حزب العمال الكردستانى. لم تحمل عريضة الأكاديميين الأتراك دفاعا عن حزب العمال الكردستانى المحظور أو تبريرا لحمله السلاح، ولم تطرح رؤية سياسية لإدارة العلاقة بين الأجهزة الرسمية وبين الأكراد تختلف عن الرؤية المعلنة للرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته وحزبه (حزب العدالة والتنمية) والتى تقر حقوق المواطنة الكاملة للأكراد وتعترف لهم بحقوق ثقافية ترتبط بكونهم أقلية عرقية تنطق بلغة (الكردية) غير لغة الأغلبية (التركية). هدف العريضة الرئيسى تمثل فى إدانة الحرب، فى التعبير عن التضامن مع الأكراد الذين ينتهك حقهم فى الحياة بسبب مواجهات الجيش وحزب العمال الكردستانى، فى الدعوة إلى البحث عن سبل سلمية لاستعادة السلم الأهلى فى جنوب شرق تركيا. على الرغم من ذلك، خرج الرئيس أردوغان على الرأى العام بخطاب عنيف للغاية يتهم مجموعة الأكاديميين الموقعين على العريضة بالخيانة والعمالة والتآمر على المصالح الوطنية التركية وتهديد الأمن القومى للبلاد، ويصنفهم «كطابور خامس» لقوى خارجية تريد إسقاط تركيا. بعبارة أخرى، الرئيس المنتخب الذى يشغل المنصب التنفيذى الأول فى نظام سياسى اعتاد خلال السنوات الماضية على الانتخابات الحرة والذى يشكل حزبه الحكومة ويتمتع بأغلبية برلمانية مستقرة، خرج على الرأى العام بخطاب سياسى مريض لا يختلف كثيرا عن الخطاب الرسمى لنظم الحكم غير الديمقراطية فى بلاد العرب وفى منطقة الشرق الأوسط. أطلق الرئيس أردوغان اتهامات مرسلة باتجاه أكاديميين يدينون الحرب فى جنوب شرق تركيا ويدعون إلى السلام، وألصق بهم مفردات الخيانة والعمالة والتآمر فى ممارسة تتطابق مع تشويه السلطوية المصرية لمعارضيها ومع مقولات الديكتاتور بشار الأسد بشأن المعارضة السورية. وعلى الفور، وفقا لبيانات العديد من المنظمات غير الحكومية المعنية بالدفاع عن الحريات الأكاديمية عالميا، شرعت الأجهزة الرسمية التركية فى تعقب «أكاديميى العريضة»، فاحتجز بعضهم قضائيا لساعات وأعفى بعضهم الآخر من مهام التدريس فى الجامعات التى يعملون بها وأخبر بعضهم الثالث باحتمالات فقدان الوظيفة. وليس ذلك أيضا سوى أمر شديد التشابه مع القمع الأمنى لبعض الأكاديميين المتمسكين بالتعبير الحر عن الرأى فى الجامعات المصرية، ومع وضعية التهديد الدائم للمواطن بسلب حريته وانتهاك حقوقه ومحاربته فى رزقه وأمنه ما لم يمتثل لإرادة السلطوية الحاكمة فى مصر وفى غيرها من بلاد العرب. وحين يتورط رئيس منتخب ومن خلفه نظام سياسى اعتاد الانتخابات الحرة فى مثل هذه الإجراءات القمعية، فإن الكثير من علامات الاستفهام المشروعة ينبغى أن تثار بشأن الطبيعة الديمقراطية لحكم الرئيس المنتخب وحدود حضورها من انتفائها. وفى خانة «نظم الحكم المنتخبة المشكوك فى التزامها الديمقراطى» تصنف اليوم تركيا، وتصنف أفعال وممارسات الرئيس أردوغان. أما فى بلادنا نحن ولأن ازدواجية المعايير هى آفتنا المفضلة، يتجاهل الإسلامويون المصريون والعرب، وهم يرون فى تجربة حزب العدالة والتنمية التركى نموذجا مؤثرا ويخلعون هالات الزعامة الإقليمية على الرئيس التركى، الإجراءات القمعية ضد المعارضة التركية ويصمتون أيضا على الحرب الدائرة فى مناطق الأكراد. فالأهم هو عداء أردوغان للانقلاب فى مصر وحربه غير المباشرة ضد الديكتاتور السورى. تماما كما يصطف، باسم علمانية زائفة ومزدوجة المعايير، شعراء وكتاب مصريون وعرب فى خانات تبرير انتهاكات حقوق الإنسان ويسخرون من شعوبهم المضطهدة التى يسومها المستبدون سوء العذاب. فالأهم هو أن يحتفظ مدعو العلمانية بمنافع خدمة الحكام المستبدين، وأن يواصلوا خداع الكثيرين فى بلادنا وفى الغرب البعيد عنا بادعاء مناهضتهم للتطرّف الدينى.