كانت هذه هى الصيحة التى رددها ملايين المصريين طوال الأيام الثمانية عشرة التى استثمرتها ثورتهم فى يناير/ فبراير 2011. أهال البعض التراب على تلك الأيام الخالدة فى تاريخ الوطن وزعم بعضهم إنها كانت «وكسة»، ووصفها آخرون بأنها كانت مؤامرة لزعزعة استقرار مصر والنيل من أمنها ضمن مخططات أمريكية/ صهيونية تستهدف تقسيم العالم العربى وتقزيم كباره، وقيل إن ما كان يسمى بالربيع العربى لم يكن فى حقيقته إلا خريفا ردىء الوقع سيئ الطالع. فى تلك الأيام... تحدى الشعب المصرى بالملايين التى خرجت إلى شوارع المحروسة ليس فقط برد الشتاء وأمطاره، وأدوات القمع التى كانت تمتلكها الدولة، وإنما أيضا تراثا ثقافيا تناقله المصريون عبر القرون، كان يقضى على المصريين بأن يقدسوا فراعينهم، وأن يربوا أولادهم على أن العيب فى الحاكم هو كما العيب فى الذات الإلهية. بل وعلى أن أعوان الحكام ممن يفترض بهم قضاء الحاجات فى خدمة الشعب، هم سادة مهما تواضعت أصولهم. فى الأسابيع الأولى التى تلت سقوط النظام المباركى، اعتدلت حياة المصريين وبدا كما لو أن التشويه الذى تراكم عبر العقود ليعصف بكل مظاهر الجمال والبهاء اللذين أفرزتهما حضارتهم عبر آلاف السنين زال بجرة قلم.. ولن أنسى أننى قرأت وقتها أن أمريكيا وابنه كتبا لصحف بلادهما، أنهما لأول مرة منذ قدومهما إلى بلدنا قبل سنوات عديدة، يرون المصريون «يدخلون من أبواب الدخول، ويخرجون من أبواب الخروج!!»، ولكن سرعان ما انقضت أيام النقاء وضاع الأمان الذى صنعه أهل مصر لأنفسهم بعدما بدا كما لو أن المؤسسة الشرطية قد تفككت، وظهر أن الجيش هو «المؤسسة» التى لاذ بها المصريون، بعدما أخذت حكومة الثورة تحدثنا ليل نهار عن «الانفلات الأمنى»، الذى سرعان ما أدى إلى عكس المسار الاقتصادى للبلاد التى كانت قد حققت فى آخر أعوام الحكم المباركى أرقاما قياسية فى عوائد السياحة وحصيلة رسوم عبور القناة ومردود الصادرات نفطية وسلعية، وجذبا غير مسبوق للاستثمارات الأجنبية المباشرة. ••• لن أحاول هنا أن أقدم حصادا للسنوات الأربع الماضية، ولكننى سأعرض لبعض ما توقفت عنده من أحداث تظهر عمق التغيير الذى حدث فى بلدنا منذ يناير فبراير 2011. بداية، لا أستطيع أن أقول باطمئنان إن الشعارات التى رددتها جنبات الميادين فى مصر قد تحققت بالكامل بعد مرور أربع سنوات على إطلاقها، ولكن الحكومات التى تعاقبت على السلطة منذ فبراير 2011 كانت دائما ما تضعها ضمن برامجها باجتهادات فى تحرير الإعلام أو تحسين منظومة التضامن الاجتماعى، غير أنه يبقى أن «الحرية» كانت هى أكثر هذه الشعارات اقترابا من التحقيق، ولكن بعد أن اتخذت صورا وتجليات شديدة السوء تمثلت على سبيل المثال فى حرية الامتناع عن العمل، وحرية قطع الطرق بوقفات واعتصامات احتجاجية، وحرية الاجتراء على النظام العام خصوصا بالاستخفاف بقانون وآداب المرور، أو بمخالفة نظم البناء من حيث الارتفاعات أو مساحات الفوارغ والردود وعلى الأخص بالبناء على الأراضى الزراعية، أو بالثورة على «السلطة الأبوية» التى كانت تتمثل فى «كل الرؤساء» سواء كانوا رئيس الدولة أو رئيس العمل أو رئيس الأسرة. ظل الإعلام بكل مؤسساته العامة والخاصة (التى تزايد عددها بشكل حاد بعد الثورة) على حاله قبل الثورة، بل كشفت تطورات ما بعد سقوط النظام المباركى عن هشاشة احترافيته وضعف منظومة الأخلاقيات التى يلتزم بها العاملون فيه وتفرضها مؤسساته رغم استمرار الحديث وارتفاعه بشكل دورى عن إصدار «مدونة سلوك» إعلامية يعدها الإعلاميون أنفسهم، بل تدهور أداء الإعلام بشكل عام بكافة وسائله مطبوعة أو مسموعة أو مرئية، وتآكل احترام الناس له، وتفاقمت سطحيته وافتضح عجزه عن ترجمة تطلعات الناس ورؤاهم، وغاب عن قياداته أن التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية التى أطلقتها الثورة، أدت إلى ظهور «رأى عام» لا يتقيد بالضرورة بالآراء والرؤى الحكومية. ••• مفهوم تمكين الشباب، تحول عملا إلى الاستخفاف بالكبار والاستهانة بهم، فيما فشلت الدولة فى تقديم العون والمشورة للحركات الشبابية لتمكينها من التحول إلى أحزاب أو جماعات سياسية تؤثر فى الشأن العام للبلاد. وعلى وهج الثورة سقطت المؤسسات التقليدية للدولة المصرية باستثناء المؤسسة العسكرية، وأيضا القضاء الذى صمد لضغوط هائلة خصوصا خلال سنة حكم جماعة الإخوان وفى مقدمتها المؤسسة الشرطية التى ذابت أثناء الثورة بعد أن فشلت فى ردع وتخويف جموع الثوار إزاء وقفة وإصرار شباب يناير فبراير وتحديهم للبطش التقليدى للشرطة ليرسلوا رسالة واضحة لكل من يعنيهم الأمر مفادها «إن الشعب المصرى لم يعد يخشى سياط الحاكم، وأنه بعد أن ذاق طعم الحرية (أيا كانت التجاوزات!) فلن يقبل بتكميم الأفواه والخنوع من جديد». اقترن سقوط المؤسسة الشرطية بظهور تعبير «الانفلات الأمنى» الذى أخذت أبواق الدولة تردده فيما كان يعزوه كثيرون إلى ظهور نوع جديد من البلطجة نسبوه إلى أقطاب الحزب الوطنى ومن ظاهرهم من رجال الأعمال، وأسفرت الحياة السياسية المستجدة التى أسست لها الفترة التى حكم فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفاقمتها تطورات السنة الضائعة من تاريخ مصر التى حكم فيها الإخوان مصر عن سقوط الدولة المصرية فى براثن فكر متطرف أدى إلى تفاقم ما كان الحكم المباركى يطلق عليه «الفتنة الطائفية» وتمثل ذلك فى الحريق يطول عشرات الكنائس فى ربوع الوطن، بل واستطاع أتباع هذا الفكر المشوه أن يفرضوا حصارا على مدينة الإنتاج الإعلامى، متجاهلين ما تمثله من استثمار باهظ يمتلكه الوطن ويرمز إلى أحد أهم عناصر القوة الناعمة المصرية ألا وهو قدرتها على التأثير فى محيطها الإقليمى والوصول بصوتها إلى الآفاق: كلمة ورسالة فن وإبداع خصوصا للناطقين بلغة الضاد، وحاولوا جاهدين تحت بصر وبتشجيع من الرسميين الموالين لجماعة الإخوان أن ينالوا من المؤسسة القضائية بفرض حصار على أعلى رموزها المتمثلة فى المحكمة الدستورية العليا. ••• كما استلفت نظرى ظهور ما يسمى بالتيار السلفى فى الحياة السياسية المصرية، رغم ما كان رموز السلفيين قد أعلنوه فى الأيام الأولى للثورة من عزوفهم عن الانخراط فى الشأن السياسى واعتزازهم بما يمارسونه من نشاط دعوى، فإذا بهم يسارعون بعد نجاح الثورة فى إسقاط النظام المباركى إلى تشكيل أحزاب سياسية وخوض الانتخابات العامة، ويشكلون من ثم ظهيرا قويا مساندا لجماعة الإخوان، ومن هنا كان ترحيبى شخصيا بصدور قانون يحظر تشكيل أحزاب على أسس دينية، وإن كان يبدو أن هذا القانون لا يزال ينتظر التفعيل.