بينما يسعي حدث الثلاثين من يونيو لاستكمال ملامحه السياسية والدستورية بنجاح, استنادا إلي ظهير شعبي عميق فإنه يواجه عقبتين جمتين: أولاهما عقبة ناجمة عن ممارسة العنف السياسي المسلط من بعض الجماعات المنتمية إلي تيار الإسلام السياسي أو المحسوبة عليه, في القلب منه أو علي هوامشه الطرفية, سواء منه العنف المسلح, أو العنف غير المسلح: رمزيا كان أو حركيا, من أجل التأثير العكسي في مسيرة الحدث الوليد, و لو بوأده, إن أمكن ذلك. أما العقبة الثانية فإنها نابعة من قوي النظام السابق علي ثورة25 يناير2011, بالسعي إلي محاولة احتواء الحدث الكبير, من داخله بالذات, وباستخدام القوة الناعمة, إذا صح هذا التعبير, بالمقارنة مع طريقة القوة الخشنة المستخدمة من قبل الإسلام السياسي. ونركز في المقال الحالي علي العقبة الثانية, بدءا مما نسميه الوهم المزدوج حول نظام مبارك, فكيف ذاك؟ لقد سقط نظام مبارك بفعل ثورة25 يناير2011, وكان السقوط مدويا بمفعول الارتطام والصدمة إزاء الواقع المجتمعي المعقد. بيد أن منظومة الحكم القديم لم تعد قابلة للاستعادة مرة أخري. ورغم صعوبة أو ربما استحالة هذه الاستعادة, فإنه من الملاحظ أن النواة الأساسية للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية للنظام القديم لم تسقط, وإنما سقطت منها فقط تلك الشريحة أو القشرة الخارجية الملتصقة ببنية السلطة في مستوياتها العليا, والمتمثلة في الارتباط بالوريث عبر ما سمي بحكومة رجال الأعمال, وخاصة خلال فترة2010/2007. بعبارة أخري, فإن تجمع المصالح الضخم الذي شكل لحمة النظام المباركي, علي مستوي العاصمة والمحافظات والمحليات جميعا, انفرط عقده, ولكنه لم يسحق, بل إنه يعاد تشكله لمحاولة التلاؤم مع تغير البيئة المحيطة, شأنه شأن الكائنات البيولوجية جميعا, وفق قاعدة حفظ الذات. وتستند الاستمرارية النسبية لتجمع المصالح الاجتماعية القديمة, ولو جزئيا, إلي ما هو أعمق, ونقصد القاعدة الاقتصادية المتمثلة في هيمنة القطاع الخاص الكبير, بوصفه القوة الدافعة الرئيسية للنمو بعد الانحسار شبه الكامل للقطاع العام في المجال الإنتاجي, سلعيا وخدميا, وسيطرة قوي السوق العرض والطلب كآلية لتشغيل الحياة الاقتصادية, بعد الانحسار شبه الكامل لدور الدولة ووظيفتها التنموية. ونتيجة للاستمرارية النسبية لتجمع المصالح القديم, وديمومة القاعدة الاقتصادية للقطاع الخاص وقوي السوق, برغم زوال نظام الحكم إلي غير رجعة, فإن هذه الحقيقة المزدوجة أدت بدورها إلي إيجاد ما يمكن أن نطلق عليه الوهم المزدوج, علي النحو التالي: أ- وهم لدي أنصار النظام المباركي الأقربين, ممن كانت لهم صلات متنوعة بجماعة الحكم, وخلاصة هذا الوهم تصور إمكان إعادة تأهيل المنظومة السياسية المباركية بدءا من إجراء عملية تبييض لوجه النظام المباركي فيما يشبه عملية ز س. غلوا, إلي حد تصور إمكان عودة نظام الحكم الأسبق نفسه, ولو علي هيئة مغايرة, علي طريقة عودة( آل بوربون) بعد الثورة الفرنسية. ب- وهم آخر لدي بعض الفرقاء السياسيين, من بين شباب ثورة يناير بالذات, وخلاصة هذا الوهم أن استعادة الظهور الإعلامي لبعض رموز النظام الأسبق, أو احتمال تبرئة مبارك قضائيا في بعض أو كل الدعاوي, وبعض أبنائه ورجال نظامه, يمكن أن يفتح الباب أمام عودة النظام المذكور, بشكل أو بآخر. وفي رأينا إن كلا الوهمين غير قابل للتحقق إلي حد بعيد. وبرغم تسليمنا بأن القاعدة الاقتصادية الاجتماعية لنظام مبارك, بل ولحقبة السادات مبارك إجمالا, لم تزل قائمة, ولن تزول في أمد قريب, إلا أن استعادة نظام الحكمسRulingRegime أي أجل كان, وأن الأولي بالأنصار الأشداء لنظام الحكم المذكور أن يستفيدوا من مناخ التفتح السياسي القائم لمحاولة إقامة حزب سياسي مخصوص, علي غرار بعض الأحزاب والكيانات السياسية التي قامت في بعض البلدان العربية أخيرا, ربما تخليدا لذكري نظام مضي و انقضي, كأنصار النظام الملكي البائد في كل من العراق وليبيا, علي سبيل المثال. غير أنه يمكن القول في ضوء ما سبق, إننا نشهد في الآونة الراهنة محاولة أوسع, من بقايا أو فلول نظام مبارك النشطة بمعناها العريض وليس مجرد أنصاره الأقربين لأن يتدحرج بهدوء ليستقر في باطن النظام الجديد بعد الثلاثين من يونيو, بديلا عن الإخوان المسلمين. والهدف الاستراتيجي لهم: منع تحقق أهداف ثورة يناير( حرية, تغيير, عدالة اجتماعية, كرامة إنسانية, استقلال وطني) و كذا منع تخلق الآليات الضرورية لتحقيق هذه الأهداف. أما عن أهم وسائل الفلول لتحقيق استراتيجيتها, فتتمثل فيما يأتي: التغلغل المنتظم في الآلة السياسية والإعلامية للنظام القائم بعد الثلاثين من يونيو, مع تثبيت ركائز ما يسمي( الاقتصاد الحر) من خلال إعادة إعطاء الأولوية للأنشطة الفقاعية في الاقتصاد الوطني وخاصة الاتصالات والعقارات, ومنع تكون منظومة حقيقية للتخطيط القومي الشامل أو استعادة الدور القيادي للدولة كجهاز اجتماعي لتحقيق المصالح العامة. العمل علي منع أي عودة ولو جزئية أو رمزية لبعض الأجنحة( المعتدلة) في التيار السياسي الإسلامي العريض; ويتم ذلك عبر انتقاد ما سموه سياسة( الأيدي المرتعشة) للحكومة الراهنة تجاه الإخوان, مع التسليم بشيوع استخدام هذا الوصف لدي أقسام معينة من القوي الوطنية. أما المعركة الأساسية لقوي النظام القديم فإن ساحتها المحتملة هي انتخابات مجلس النواب القادم بهدف احتلال موقع مؤثر داخل المجلس, عبر غلبة نظام التصويت الفردي, بما يؤثر تأثيرا أساسيا في الكتلة التصويتية, ومن ثم التغلغل بصورة جوهرية في الآلية القرارية للسلطة التشريعية المقبلة. وقد يؤدي ذلك إلي الميل باتجاه محاولة إعادة استنساخ المنظومة الاقتصادية الاجتماعية القديمة, وقطع الطريق علي القفزة التنموية المأمولة, بالمعايير العالمية. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى