تعالت الأصوات عقب ثورة 25 يناير 2011 بضرورة سن تشريعات جديدة لمحاكمة الرئيس الأسبق حسنى مبارك ورموز نظامه على جرائمهم السياسية وإفساد مرافق الدولة والعبث بمقدرات الشعب المصرى، والتردى الذى شهده عهده على جميع المستويات سياسيا وصحيا وتعليميا وعلميا وزراعيا وصناعيا. وكان ما دفع هذه الأصوات للمطالبة بالمحاكمة السياسية، هو انسداد أفق إجراء محاكمات ثورية لمبارك ورموز نظامه بعد تنحيه فى 11 فبراير 2011، بعدما استقر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم مؤقتا مع التيارات السياسية وعلى رأسها جماعة الإخوان، على اتباع نظام القضاء الطبيعى لمساءلة رموز النظام السابق، وعدم تكرار ما حدث من محاكمات استثنائية عقب ثورة 23 يوليو 1952. كما كانت هذه الأصوات مدفوعة بالتخوف من حكم مرتقب ببراءة مبارك ورجاله من جرائم قتل المتظاهرين، نظرا لتأخر النيابة العامة فى تحريك الدعوى الجنائية ضده إلى شهرى مارس وأبريل 2011، فى مرحلة تعذر فيها جمع الأدلة الجنائية على وقائع القتل، نظرا للتغيرات التى طرأت على مسارح الجريمة فى مختلف ميادين مصر، وعلى رأسها ميدان التحرير، وتوقف رجال الشرطة والبحث الجنائى عن أداء عملهم. وساهمت هذه الأسباب فى صدور تحذيرات قضائية عديدة فى تلك الفترة من «براءة محتمة لمبارك فى قتل المتظاهرين» بسبب شيوع الجريمة وعدم تحديد الفاعلين الأصليين وغياب أدلة الثبوت الفنية، وهى بعض الأسباب التى استندت لها المحكمة مؤخرا فى حكم البراءة. وعقب صدور حكم البراءة، أمس الأول، طفت على السطح مرة أخرى مطالبات محاكمة مبارك سياسيا، وطرحت تساؤلات عن الإطار القانونى لهذه المحاكمة إن حدثت، وإمكانية إجرائها الآن بعد نحو 4 سنوات من تنحى مبارك. من «الغدر» إلى «إفساد الحياة السياسية» يكشف الواقع القانونى أن أول قانون لمساءلة الفاسدين سياسيا صدر فى 22 ديسمبر 1952 برقم 344 لسنة 1952 باسم «قانون الغدر» والذى صدق على إصداره آنذاك الأمير محمد عبدالمنعم، رئيس هيئة الوصاية على عرش الملك الطفل أحمد فؤاد الثانى، عقب ثورة يوليو، وكان قائد الثورة اللواء محمد نجيب يتولى رئاسة الوزراء، بينما وضع نص القانون وزير الداخلية آنذاك سليمان حافظ، الذى كان قاضيا بمجلس الدولة قبل توليه الوزارة. ظل قانون الغدر قائما إلى أن أصدر المشير حسين طنطاوى، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تعديلا تشريعيا عليه فى 21 نوفمبر 2011، استجابة للأصوات المطالبة ب«المحاكمة السياسية» لرموز مبارك، وكانت أبرز التعديلات تغيير اسمه من «الغدر» إلى «إفساد الحياة السياسية» بالإضافة لتغيير نظام المحاكمة لتصبح عادية وليست استثنائية. كما حذف القانون الصادر فى عهد المجلس العسكرى العديد من الجرائم التى كانت تستوجب المحاكمة، وكذلك تخفيف العقوبات. فبمطالعة قانون الغدر، يتبين أنه كان يعاقب 6 أفعال إجرامية هى: التعاون على إفساد الحكم بالإضرار بمصالح البلاد أو التهاون فيها أو بطريق مخالفة القوانين للحصول على مزايا سياسية. • استغلال النفوذ ولو بطريق الإيهام للحصول على فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لغيره من أية سلطة عامة أو هيئة أو مؤسسة. • استغلال النفوذ للحصول لنفسه أو لأحد ممن ينتمون إليه بصلة قرابة أو مصاهرة أو حزبية على وظيفة فى الدولة أو وظيفة أو منصب فى الهيئات العامة. • استغلال النفوذ بإجراء تصرف أو فعل من شأنه التأثير بالزيادة أو النقص بطريق مباشر أو غير مباشر فى أثمان العقارات والبضائع والمحاصيل وغيرها، أو أسعار أوراق الحكومة المالية، أو الأوراق المالية بالبورصة. • كل عمل أو تصرف يقصد منه التأثير فى القضاة أو فى أعضاء أية هيئة خولها القانون القضاء والإفتاء. • التدخل الضار بالمصلحة العامة فى أعمال الوظيفة ممن لا اختصاص له فى ذلك، أو قبول ذلك التدخل. ثم جاء القانون الجديد ليبقى على الجريمتين الأولى والأخيرة فقط، وحذف من الجريمة الأولى عبارة «أو بطريق مخالفة القوانين للحصول على مزايا سياسية» كما حذف باقى الجرائم الخاصة باستغلال النفوذ للحصول على فوائد ومزايا، أو على وظيفة، أو التلاعب فى أسعار العقارات والبضائع، وكذلك التدخل فى عمل القضاء والإفتاء. أما العقوبات، فكان قانون الغدر ينص على معاقبة مرتكبى هذه الجرائم ب«العزل من الوظائف العامة القيادية، سقوط العضوية البرلمانية أو التمثيلية فى المجالس البلدية والمحلية، الحرمان من حق الانتخاب أو الترشيح لأى مجلس لمدة أقلها 5 سنوات، الحرمان من تولى الوظائف العامة لمدة أقلها 5 سنوات، الحرمان من الانتماء لأى حزب سياسى لمدة أقلها 5 سنوات، الحرمان من عضوية مجالس إدارة الهيئات والشركات والمؤسسات التى تخضع لإشراف السلطات العامة لمدة أقلها 5 سنوات، الحرمان من المعاش كله أو بعضه». كما كان يجيز إسقاط الجنسية المصرية عن مرتكب الجريمة السياسية «الغدر» ويجيز الحكم أيضا برد ما استفاد به من غدره وتقدره المحكمة. وأبقى القانون الجديد على قواعد العقوبات السابقة، لكنه خفف فترتها فجعل مدة العزل والحرمان لفترة مؤقتة أقصاها 5 سنوات (وليس أقلها 5 سنوات) كما تم حذف عقوبة إسقاط الجنسية. طرق تحريك الدعوى الجنائية كان قانون الغدر يلزم النيابة العامة برفع الدعوى من تلقاء نفسها أو استنادا إلى بلاغ قدم إليها، أو رفعها بناء على قرار من إحدى لجان التطهير المشكلة بعد ثورة يوليو لتطهير أجهزة الدولة، على أن يحدد رئيس المحكمة موعد نظر الدعوى خلال 15 يوما من رفعها. وكانت المحكمة خاصة واستتثنائية، تتشكل برئاسة مستشار من محكمة النقض، وعضوية مستشارين بمحكمة استئناف القاهرة، يعينهما وزير العدل، وأربعة ضباط عظام لا تقل رتبة كل منهم عن الصاغ (الرائد) يعينهم القائد العام للقوات المسلحة. ثم جاء القانون الجديد الصادر فى عهد المجلس العسكرى، ليجعل المحاكمة عادية طبيعية وليست استثنائية، حيث تختص محكمة الجنايات بنظر الدعاوى، ويحدد رئيس محكمة استئناف القاهرة دائرة أو أكثر لهذا الاختصاص، بعد موافقة الجمعية العمومية للمحكمة. وأصبح تحريك الدعوى الجنائية فى الجرائم بمعرفة النيابة العامة وذلك من تلقاء ذاتها أو بناء على بلاغ يقدم إليها متى توافرت بشأن المتهم أدلة جدية على ارتكاب أى من هذه الجرائم بعد تحقيق قضائى تجريه النيابة. وأكدت مصادر قضائية رفيعة المستوى بمحكمة استئناف القاهرة أن «النيابة العامة لم تتلق بلاغا واحدا ضد أى شخص بتهمة إفساد الحياة السياسية، كما لم تبادر أيضا بتحريك الدعوى ضد أى مسئول سابق من نظام مبارك، كما لم يتم تخصيص دوائر قضائية لنظر الدعاوى» أى أن القانون الذى صدر قبل 7 أيام من انطلاق أول انتخابات تشريعية بعد ثورة يناير، لم يدخل حيز التنفيذ. وأضافت المصادر أن «صعوبة تفسير الفعل الإجرامى لإفساد الحكم والحياة السياسية، وصعوبة الاستدلال عليه، هو أحد أسباب عدم تطبيق القانون على أرض الواقع» مشيرة إلى أن «قانون الغدر كان يتضمن أفعالا إجرامية أكثر وضوحا ويمكن تحديدها بسهولة». وشددت المصادر على أن «هذا القانون قابل للتنفيذ بذاته وفى أى مرحلة زمنية، لأنه يتعامل مع جريمة إفساد الحكم كجريمة قائمة بذاتها، وليست مرتبطة بنظام سياسى أو سلطة حكم معينة». وردا على سؤال عن إمكانية تعديل القانون، أوضحت المصادر ذاتها أن «سلطة التشريع الحالية المؤقتة ممثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسى، أو الدائمة ممثلة فى البرلمان المقبل، يجوز لهما تعديل القانون بأى صورة لتحديد الجرائم، وهو بصورته الحالية صالح لمعاقبة أى مسئول أفسد الحياة السياسية، فى أى عصر سابق أو حالى». عقوبات سياسية فقط أم جنائية أيضا؟ لا يتضمن قانونا إفساد الحياة السياسية، وسلفه «الغدر، أى عقوبات جنائية يمكن توقيعها على المتهمين. إلاّ أن هناك قانونا صدر بشأن محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، برقم 247 لسنة 1956 وتبعه آخر بشأن محاكمة الوزراء فى الإقليمين المصرى والسورى بالجمهورية العربية المتحدة، برقم 79 لسنة 1958، يرتبان عقوبات تصل لحد الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، إذا «عمل رئيس الجمهورية على تغيير النظام الجمهورى إلى نظام ملكى، وإذا أوقف دستور الدولة كله أو بعضه أو تعديل أحكامه دون اتباع القواعد والإجراءات التى قررها الدستور». ويرى المستشار محمد أمين المهدى، وزير العدالة الانتقالية ورئيس مجلس الدولة الأسبق، فى مقال نشرته «الشروق» على جزءين فى مايو 2011 أن «محاكمة المسئولين السياسيين ومنهم رئيس الجمهورية والوزراء بتهمة خيانة الأمانة السياسية يمكن أن تجرى وفقا لهذين القانونين». وأكد المهدى فى مقاله أن «الدساتير المتعاقبة حرصت على التأكيد على أداء الرئيس والوزراء يمينا دستوريا بالمحافظة بإخلاص على النظام الجمهورى ورعاية مصالح الشعب والحفاظ على استقلال الوطن» وأن «خيانة الأمانة السياسية تتحقق بالتهاون، عمدا أو تقصيرا وإهمالا، فى الالتزام بمفهوم ما تتضمنه عبارة القسم التى تستدعى فى ذاتها مجمل ما يفصله الدستور والقانون من أحكام بشأن التزامات وواجبات القائمين على أمور الشعب صاحب السيادة. وفقا لما استقر عليه قضاء المحكمة الإدارية العليا اعتبارا من حكمها الصادر بجلسة 27 من أكتوبر سنة 2000 على أن عبارات القسم تحمل أحكاما موضوعية يقتضيها لزاما جوهر العبارة حتى وإن لم تتناولها ظاهريا». واعتبر المهدى فى مقاله أن «تزييف إرادة الشعب على الأقل فى انتخابات مجلس الشعب 2010، وإهدار حجية أحكام بطلان الانتخابات فى العديد من الدوائر، والتطاول على الأحكام القضائية بنعتها «معدومة» وغيرها من الممارسات، تعتبر أمثلة للحنث باليمين، الذى ينطوى على خيانة الأمانة السياسية، ويرتب مسئولية سياسية ومسئولية جنائية».