ينصبُّ اهتمام أغلب الفنانين التشكيليين على الشكل وعلاقات الكتل والخطوط والألوان، وعلى الحوارات البصرية بينها وبين حواس الاستقبال لدى المشاهد، بحثا عن التناغم الجمالى والنشوة المتولدة عنه، غير أن الفنان (الرسام) سمير فؤاد ضمن قلة من الفنانين المعاصرين يبحث عما هو أبعد من هذه النشوة المجردة، وعما هو أبعد من قدرة الفنان على تحقيق التناغم البصرى والمتعة الحسية له وللمتلقى، قد نقول إنه يبحث عما وراء ذلك كله، عن تلك المشاعر والإيقاعات النفسية الكامنة وراء الشكل، بل وراء الموضوع الذى يعالجه. «فالموضوع» فى معرضه الأخير الذى أقيم بقاعة بيكاسو بالزمالك هو المقامات الموسيقية، وغنى عن القول ان هذه المقامات لا ترى بالعين، بل تسمع بالأذن وتحس بالوجدان وتدرك بالروح، أو كما يصفها بنفسه: «هى طبقات الصوت، وطبقات التصوف والتجلى، وهى تتابع النغمات بحيث تخضع المسافات التى تفصل بينها لقاعدة ثابتة، ويخلق كل مقام حالة حسية وجدانية خاصة، فهنا مقامات مشرقة أو مبهجة وأخرى داكنة أو حزينة...». فكيف ترجم الفنان ذلك تشكيليا؟.. لقد ترجمه عبر وسيطين ماديين، الأول هو تصوير الآلات الموسيقية، خاصة آلات النفخ والآلات الوترية، والثانى هم العازفون بهذه الآلات وبعض الراقصات على أنغامها. لكن هذه العناصر المادية المباشرة لا تحقق ما يستهدفه الفنان من شحنة تعبيرية، ومن خلق مقامات ذات ايقاعات بصرية بديلة عن الايقاعات المسموعة.. هنا تبرز الطاقة الإبداعية للفنان لتحريك هذه العناصر، من خلال الذبذبات والارتعاشات التى تعكسها الكتل الجامدة فى حركتها الدائبة، عبر ضربات الفرشاة وخربشات السطح وتفاعل الألوان. انه يحيلنا إلى حالة غير يقينية بأن ما نراه هو الواقع كما نعرفه، بل هو أقرب إلى واقع افتراضى أو مجازى، لا يعبر عن ظاهر الحركة البصرية، بل عن حالة باطنية تتفاعل فيها الأحاسيس والرؤى، بحس مفارق للرؤى الواقعية المحددة، متصاعدا نحو آفاق جمالية وإنسانية منفتحة، تحتمل وحدة المتناقضات بين ثبات المقامات المحكومة بإقاعات ومسافات صوتية وبين طاقات التعبير العفوية غير الثابتة أو المحدودة، كما تحتمل التأويل إلى حالات انفعالية بين الفرح والحزن والغضب والانسجام وما إلى ذلك. وبديلا عن الأصوات وطبقاتها، فإنه يلجأ إلى الأشكال المقابلة لها.. فلكى يعبر عن الصوت النحاسى العريض والجهورى، يعمد إلى تضخيم أبواق آلات النفخ النحاسية حتى تحتل أكبر مساحة من فراغ اللوحة، ولكى يعبر عن تقاطع النغمات وذبذبة الإيقاع يلجأ إلى مضاعفة التلافيف فى الأنابيب النحاسية المستديرة «الساكسفون» إلى درجة التعقيد، وربما إلى درجة التداخل والتوحد بينها وبين وجه العازف وأصابعه، وإلى إحداث ارتعاشات فى اللمسات والخطوط، قد تصل إلى حد الاهتزازات العنيفة، ثم تنخفض وتيرتها حتى تتلاشى فى خلفية اللوحة، لتعود فتتصاعد فى مكان آخر، حتى تصل إلى الضراوة الحوشية عبر ضربات الفرشاة، وبذلك تعوض شحوب الألوان الرمادية والخضراء والبُنِّية الفاتحة والقاتمة التى تنتقل بك إلى أغوار الزمن، بعيدا عن النقلات الحادة والمفاجئة.. فأنت هنا فى رحاب الصيرورة فى اللا زمان! إنها حالات أقرب إلى الشعر غير المقفَّى، وإن بقى له وزنه وإيقاعه النغمى، محققا التوازن بين جموح الانفعالات وثبات المقامات، لتعلو بذلك إلى مستوى الشاعرية، كتعبير باطنى ينتظم الأحاسيس والانفعالات فى سياق روحانى.