تقدم لنا الكاتبة الصحفية والناقدة المتميزة »عبلة الرويني« في كتابها السابع بعد: الجنوبي.. والشعراء الخوارج.. حكي الطائر سعد الله ونوس.. كأنه الهوي.. سفْر أمل دنقل.. بيبلوجرافيا أمل دنقل، ملمحاً من ملامح ابداعات الفنان الكبير حسن سليمان، في علاقته بالمرأة التي يجدها دوما مع خطوطه علي اللوحة التي يرسمها فتزاوج أحلامه بمياه لا آخر لها.. فمن دونها لن يوجد مخاض لفن أصيل.. متسائلا: هل من دونها أصل الي مرفأ استطيع فيه أن املك جدية الاساتذة العظام من الفنانين وعمقهم؟ لذلك حلم وهو في العشرين من عمره - بوجه امرأة يغسله الضوء.. وجه مسطح جميل بلا أغوار.. فوقه شمس قوية شرسة.. وظل مناط تفكيره واهتمامه هو: كيف يواجه السطح الأبيض الذي أمامه بكل حرية وتركيز؟ فالحياة رائعة، وأجمل ما فيها أن المرء لا يعيشها سوي مرة واحدة. لذلك كان حريصا علي أن يؤكد لنا بجلاء أن ما حاول اضافته الي ما تعلمه من أستاذيه الرائدين: »أحمد صبري« و»بيبي مارتان« هو حسه الخاص بامكانية استخدام البعد الثالث في اللوحة استخداما يخدم الوصول إليها، كما يخدم التجريد فيها.. محاولا اضافة معني جديد إلي الفراغ الذي يحيط ببقعة اللون، مع حرصه في الوقت نفسه علي تدعيم أثر كل من الزمن والمسافة علي هذه البقعة داخل اللوحة. تقول »عبلة الرويني«: »حكايات حسن سليمان عن النساء اللاتي يقوم برسمهن، تشعرك في كثير من الأحيان أن نصفها من وحي خياله، أو أنه يكمل النموذج الذي يبحث عنه بالحكاية أو بتفاصيلها. ثمة اعجاب واضح، وعلاقات انسانية صريحة؛ فهو لا يرسم سوي امرأة تستفزه، امرأة تشعره بأنوثتها، امرأة يعجب بها«.
وهي لاشك مسألة جديرة بالتأمل في مراوحتها بين المثال والواقع، حتي غدا الفنان يري المرأة ضوءا هاربا، أو روحا قابلة للانسراب.. ألم يقتل »ديك الجن« حبيبته وردا ويحولها إلي كأس يرتشفها.. لكنه مات في فسحته المشدودة إلي عالمها! ومن ثم، فالمرأة تشكل تحديا جميلا وخطرا للفنان، فيظل علي تماس مع الجرح.. استثنائيا في ألمه.. فعاش علاقته الملتبسة بالمرأة، عبر سيرورة حياة ناقصة في واقعه، مضافة في متخيله.. يراها من كثافة وجودها في أسئلته التي تعاين ذاته القلقة. لهذا كتب »حسن سليمان« يوما يقول: »جسدها يتحداني ويتحدي الظلمة.. كلانا يصل إلي الحافة، حافة الحياة والموت.. وحينئذ ألتحم معها في لمسة رقيقة من ضوء يسطع فقط في صوري«. وهنا تقول »عبلة«: »عندما تمر الواحدة منهن أمامه، ينفجر العديد من الأسئلة داخل الفنان، يبحث عن حلول واجابات للسيطرة علي الكتلة والألوان والمنظور، ودائما ينشغل بالخلفية«.. وضربت لنا مثلا دالا علي ذلك بلوحة »بائعة السبانخ« حيث كان يشغله الصراع بين الأخضر »الخضراوات« ولون الحجر الدافيء للجدران خلفها.. فالخلفية - كما تقول - »هي عمق اللوحة، وهي خصوصية حسن سليمان وأسلوبه المميز« لذلك رأي أن هناك نوعين من الألوان بالنسبة إلي الفنان: اللون الذي تراه العين، ويحكي دلالة الأشياء كما هي في الطبيعة، واللون الفعلي في العمل الفني، واضعا نصب عينيه سؤالا محوريا مفاده: هل بمقدور البناء الشكلي للوحة أن يتحملها، وكيف يتأتي له أن يربطها بباقي الصراعات اللونية التي تربط العمل الفني كله كوحدة واحدة؟ ومع الرغبة في التعبير سقوط الضوء، ومحاولة الوصول إلي وحدة تؤكد الشكل ككل، نجد اللون يذوب ويتلاشي مع ضربات الفرشاة هنا وهناك.. يضيع مع الظل والنور، لتظهر الأشكال في مقياس لوني شامل من الرماديات. بيد أن »عبلة الرويني« راحت تؤكد علي حقيقة أساسية حكمت رؤية ذلك الفنان منذ بدأ اشتغاله بالفن، فلم يضع التزامه السياسي النشط فوق التزامه الجمالي في أي وقت من الأوقات، وظل حريصا علي ابداع جمالية تضاعف من سلطة الخيال، وروح المغامرة المتوثبة، هاتفا مع »جبران خليل جبران«: »امرأة أخري ستلدني«.. أو بتعبير »عبلة« الدال: »لكن النورج والعمل في الحقل والأوز والفلاحات والمرأة الشعبية والانحياز إلي الطبقات الفقيرة، والانشغال بقضايا الناس، وحروب التحرير، والثورة المسلحة والماركسية التي اعتنقها منذ تلك الفترة، كل ذلك لم يفرض إطارا سياسيا علي اللوحة. وكثير من المعارض التي قدمها كان مجرد طبيعة صامتة، تجابه وظيفة اللون، وتجابه المباشرة، ويؤكد أن الفن لا يصنع ثورة، ولا يؤمم أرضا؛ ولا يقدم خدمات اجتماعية«.. الأمر الذي دفع »حسن سليمان« إلي الايمان بأن قيمة العمل الفني تنبع من جمعه بين المتناقضات في نظام قاسٍ، كما تنبع من تكامل اتزانه الناتج عن حساسية مرهفة نتيجة لمران الفنان وحصيلته ومعاناته الطويلة والسابقة.
وتقوم »عبلة الرويني« برحلة فنية عريضة تجيل فيها الطرف في لوحات فناننا الكبير وعالمه المتشعب، فتغتني بالرؤي وقيامات الرموز في هزة انخطافية يبدعها حب الحياة، وتتوقف عند احدي الموديلات من الجمالية التي سألت الاستاذ »حسن« بعد أن خلعت ملابسها قائلة له: »يا أستاذ حسن« بيقولوا ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما، أمال ليه الشيطان ما بيجيش؟ فيؤكد لها الفنان - كما تقول عبلة - »خطأ الفكرة؛ لأن الفنان عندما يرسم ينسي تماما المسألة الحسية.. بل ان الصورة الشهوانية ليست فنا، فالفن لا يصور إباحية.. وإذا اشتهي الفنان الجسد الذي أمامه، يتوقف عن الرسم. وهذا ما يؤكده »حسن سليمان« مشيرا إلي أن خطا واحدا علي اللوحة، أفضل مئات المرات من علاقة جنسية مع المرأة التي أمام اللوحة«.. وقد ذكرني كلام »عبلة« هذا بما قاله »حسن سليمان« يوما بشاعريته التي تعيش الحياة بحواسها، وبلغة الحدس والمخاطرة: »المرأة هي عالمي.. وهي النصل المصوب إليَّ.. لكنني أهرب من النزوة.. من اللحظة.. من أي ملمس حسي.. نحن نسيء استخدام أحاسيسنا في الحب.. في الفن.. قاسية جدا قبضة الزمن.. قبضة الفن.. قبضة المرأة، والفنان يريد الخلاص« لهذا رأي »حسن سليمان« أن الغموض الذي يكتنف المرأة، ويكتنف الفن سيبقي، وتبقي الحيرة التي تدفع المرء كي يعبر عما يحس به. من هنا، فإن الرسم والمرأة يحتضنانه، وإن كان لا يرسو معها علي مرفأ، لكنه بالرسم يصل إلي حافة يخشاها. وقد استطاعت »عبلة« أن تستخلص من لوحته الضخمة »صورة لامرأة تعقد شعرها من الخلف وهي جالسة فوق كرسي أمام سور الشرفة« أن »امتدادات الضوء واشتقاقات اللون والظل فوق اللوحة وفي الغرفة بأكملها، لعبة مدهشة.. تفتح نوافذ الطفولة وبواكير الدهشة«. وذلك علي نحو جعل »حسن سليمان« يدرك أن ما يحدد الدفء والحرارة في الصورة، ليست حدة الألوان الساخنة، ولا صراخ اللون الأحمر.. بل يتحدد الدفء بعلاقات الألوان، ووضع الدرجات الي بعضها البعض. أما بريق اللون وزعيقه فلايحددان شيئا. وفي بداية القرن السابع عشر، استخدم الفنانون اللون الأزرق بكثرة، حتي يمنحوا فرصة للون الجسد البشري أن يتبدي بكامل نضارته وحيويته. لهذا شدد فناننا الكبير علي أن قيمة كل لون مرهونة ومشروطة بعلاقتها بما يجاورها من ألوان.. وهو ما لاحظته صاحبة الكتاب فرأت أنه »يستخدم الألوان الساخنة: الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي. لكن بعد أن يدخلها في نسيجه وايقاعاته وروحه، ولا يبوح بها أو يفصح عنها. بينما يحرص دائما طوال تجربته علي هدم الوظيفة الرمزية للون بأي شكل من الأشكال. هكذا يختبيء اللون لديه، ممتزجا بعناصر متعددة، في تركيبة مدهشة يخفيها داخل روحه، تماما كصوفي لا يحب أن يفضح علاماته ويبوح عن نفسه«. ومن اللافت في هذا السياق أن »حسن سليمان« اكتشف من ممارسته الفنية الطويلة مع الألوان قانونا انسانيا حيويا مؤداه أن ما يحدد دفء الحياة ليس صراخ العواطف واضطرامها، بقدر ما تحدده العلاقات الانسانية البسيطة السليمة، علاقات تخضع لقانون يحددها، كذلك القانون الذي تخضع له الألوان والدرجات في عمل فني. وتفرد »عبلة الرويني« مساحة كبيرة لرسوم الموديل، موضحة أن فناننا الكبير كان »يرسم من خلاله رأيه في المرأة، في المجتمع، في الحضارة. ومثلما تمنحه الروح والإحساس، يمنحها الكمال والاكتمال«.. ولفتت نظرنا إلي أن »فتاة الجمالية سناء أو سلوي هي بطلة معرضه »نساء من القاهرة«. وقد شبهها بتماثيل رودان، لأن نسب الدهن الموزعة في جسدها، أشبه بنسب الدهن عند رودان، ورغم وجهها »الخواجاتي« فإنها الجسد النموذج لدي حسن سليمان، الذي تتحقق فيه نسب المرأة المصرية الخالدة في تكامل علاقة الصدر والارداف، بالأذرع بالأرجل، في تناسق تكوينها وأردافها الشبيهة »بالكمثري« وهو مالا يجده لدي المرأة الاوروبية بأردافها الشبيهة »بالتفاحة« ذلك التكوين المشوه للجسد الأنثوي ، والذي أزعج ديجا كثيرا«. لذلك خاطبها فناننا الكبير من خلال معرضه »نساء القاهرة« الذي اقامه في قاعة الهناجر بالاوبرا في الفترة من 3 مارس - 3 ابريل 3002 قائلا: »احبسي أنفاسك يا امرأة القاهرة. كأسي فارغة، لكني رسمتك.
نحي قناعك عندما تلتقين رجلا نذر للفن حياته. انك لن تعطي ابدا روحا خالصة لنهار نقي« لهذا وجدت »عبلة« أن »التعبير عند حسن سليمان لا تجسده قسمات الوجه والملامح، ولا اللون، ولا الحركة، ولكنه يحتل اللوحة بأكملها، يطل من الحالة الكلية، من النسب، من الانسجام والتناغم في طريقة الرؤية العقلية الباحثة وراء الجمال«. وهذا ما توخاه فناننا الكبير الذي ما فتيء يشدد النبر علي أن قوة العمل الفني تنهض علي النغم والايقاع: أي البناء الموسيقي. فمعه نصل بالحدس الي وحدة الكون وشموليته.. والنغم في الصورة أو التمثال نلمسه في تأكيد الفنان علي بعض الاجزاء، وعلاقتها بالاجزاء الباقية.. وفي استطاعتنا أحيانا ان نلمس سريعا المركز الذي تتجمع حوله المساحات والألوان والخطوط.. كما نلمح اتجاهات الحركة التي تقود العين الي ذلك المركز. وبذلك استطاع كتاب »نساء حسن سليمان« ان يضع يدنا علي بعض مفاتيح الدخول الي عالم هذا الفنان الثري المعقد الذي اقتني جاليري جوجونيونا عام 6691 بعض أعماله، ووضعها جنبا الي جنب أعمال: ماتيس.. بيكاسو.. سيروني.. موراندي.. وآمن ان الفنان يبدع لكي يتقدم العالم.. ولان الفنان يشعر بأهمية ضغطة بسيطة علي يد انسان آخر.. فإن هذا الامر لا يمكن حدوثه إلا اذا صور الحقيقة مرة كما هي.. عارية كما هي.. بكل التناقضات التي تضطرب في نفسه. لذلك لم تقف أعماله عند تخوم التشكيل فقط، وانما تجاوزته الي الاحتفاء بايقاع الحياة في عرامتها، واحتدام أصواتها، وجيشان رغباتها الدفينة، ناظرا الي العالم كمحو وانبناء، دافعا بالطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية إلي لحظة الوعي الشعرية ذاتها.