تَمهِيدٌ مَلْحَمِيٌ هِرَقل، واحد من أعظم الأبطال المذكورين بالأساطير الإغريقية، كان مجرد طفل، قبل أن يكتشف لاحقًا أن أبيه هو زيوس، كبير آلهة الأوليمب. بعدها، وبعد تفاصيل عائلية ومتراكمات من الغيرة من "مراة أبوه" وأحداث قتل عائلي، هرقل حيتم تكليفه ب12 مهمة شبه مستحيلة للقيام بها. بدءًا بقتل أسد نيميا (مهمة أعقد قليلًا من غنائية "أول ما أقول آلي-هُوب، وأصرخلي صرخة، هاهاها، السبع يتكهرب ويبقى فرخة")، مرورًا بقتل الهَيْدرَا (شبه أفعى متعددة الرؤوس، وكل ما تقطلعها رأس يطلعلها رؤوس أخرى)، والقبض على الغزال ذي القرون الذهبية، وخنزير الملك أريمانثوس البري، وتنظيف إسطبلات الملك أوجيوس (أكبر إسطبلات في عموم بلاد اليونان، والتي لم تنظف يومًا من قبل، وكان على هرقل تنظيفها في يوم واحد فقط)، وقتل طيور ستيمفاليان (طيور تأكل البشر، مناقيرها من البرونز ولها ريش معدني حاد)، والإمساك بثور كريت، وخيول ديوميد، وحزام هيبوليتا (ملكة الأمازونيات، قبيلة النساء المحاربات، وهو هدية من إله الحرب آريس لها)، والإمساك بماشية جِيريون (في طريقه مَرَّ بليبيا، واستاء جدًا من الجو الحار، فأطلق سهمًا على الشمس... ببساطة!)، وإحضار تفاح هيسبريدا الذهبي، وأخيرًا، القبض على الكلب "سيربيروس" ثلاثي الرؤوس، حارس بوابات العالم السُفلي الجحيم، مملكة عمه هِيدِس. ده كان دائمًا تسلسل الملاحم الطبيعي، بطل بيقع في مشكلة كبيرة، أو تحصله محنة مصيبة مهولة، وفي قمة الظلام النفسي، بيبقى قدامه فرصة صغيرة جدًا، ومستحيلة جدًا لتصحيح الأمور، عبر القيام بمهام غير ممكنة على الإطلاق. ولما بيعديهم كلهم، الكون بيضحكله وبياخد مكافأة تليق بالمجهود العظيم اللي قام بيه. هرقل كان كده، جلجاميش كان كده، حتى قصة أيزيس وأوزوريس وحورس شبيهة جدًا بكده. كل الحضارات كان فيها دائمًا ملحمة يتحاكى عنها الناس تليق بعصرهم. بس دلوقتي، إيه هي الملحمة الممكنة في وقتنا ومكاننا ده؟ وإيه علاقة ده بالأكل؟ المَلحَمَة بشكل ما، لا تبدو القاهرة كمكان مناسب للقيام بأية ملاحم. الزحمة، والتلوث، والضوضاء، والإحساس العام بالكآبة، كلها أشياء تحب أي قدرة أو رغبة في القيام بأي مستحيلات. وعلشان كده، كان الرحيل للإسكندرية، وتحديدًا لكورنيش المَكس، لمحل "زفير" للأكلات البحرية، واحد من أكتر محلات الإسكندرية اللي جالي ترشيحات لزيارتها من أصدقاء إسكندرانية كثيرين. بداية، بما إني ابن بار جدًا لمدينة الإسمنت والكباري والأنفاق، كان أول شيء لفت نظري في محل "زفير" كونه في قلب البحر. لو قعدت في التراس، حتلاقي قدامك سماء زرقاء مفتوحة، وبحرا ممتدا في كل مكان أمام نظرك، وكأن الأزرق ده هو أول خطوة علشان تغسل روحك من قُبح القاهرة المعماري. بمجرد جلوسنا، كان أول شيء لاحظته في المكان هو إحساس بكون المحل ده، ثابت على شكله وحاله من زمان، من السبعينيات مثلًا. المحل بسيط بس شيك بمقاييس السبعينيات، كل شيء خشبي، العاملون هناك ودودون جدًا، وعلى كل ترابيزة في ورقة صغيرة بتشرح تاريخا مبسطا للمكان، اللي تأسس سنة 1918 على يد "الخواجة ديمتري"، كأنه بالضبط ذكرى باقية من واحدة من أعظم المدن الكوزموبوليتانية اللي تواجدت على البحر المتوسط، الإسكندرية القديمة. وزي أي محل أسماك بحرية بيحترم تقاليد أكل السمك، اتطلب مننا إننا نروح لثلاجة الأسماك والمأكولات البحرية علشان نختار طلبنا، وده بالنسبالي، ملحمتي الخاصة. لسبب ما، أنا عمري ما عرفت أنقي سمك، ولا فهمت بشكل واضح الفروقات الواضحة بين الأسمال المختلفة وبعضها. بالنسبة لي، الاختلافات الوحيدة في السمك هي اختلاف الأحجام، أو اختلاف طريقة التسوية، ما بين مشوي ومقلي أو صينية. القاعدة بالنسبة لي واضحة جدًا فيما يخص المأكولات البحرية، لو طالع من البحر، أنا بحبه وحاكله. بدأنا الطلب بحاجات خفيفة في مستوى الطالب العادي، شوربة سي فوود، رُز صيَّادِيَّة، مكرونة بالسي فوود، طاجن كاليماري بصوص أبيض وطاجن كاليماري بصوص أحمر، كابوريا، وجمبري. لسبب ما، وأظنه لتفادي الاختلاف والنقاش المحتد على طريقة عمل السمك أو اختيار السمك ذات نفسه، اتفقت أنا وأصحابي بشكل صامت على إننا منطلبش سمك من أساسه (غباء، عارف). أصعب لقطة في الطلب، كانت لما الموظف المختص بالثلاجة سألنا على طريقة تسوية الجمبري اللي نفضلها، فَ صديقي نور ( تعرفونه كَ نور الدين إبراهيم، كاتب مقالات عن السفر في بوابة الشروق)، تهور وقال للراجل "مقلي". ومع إن نور بيكتب بشكل متكرر عن السفر ومتفهم لفكرة إن لكل شعب عادات وطبا اجتماعية مختلفة، ومع إني اختصاصي في الكتابة هو الأكل، فَ عمر ما كان حيخطر ببالنا كمية الاحتقار والغضب اللي سمعنا بيها جُملة "مقلي؟ عايزين تاكلوا الجمبري... مقلي؟". أنا أكاد أقسم إني سمعت جملة "أدي يا عم محدثي النعمة بتوع مصر اللي مبيفهموش في الأكل جايين ياكلوا حمبري مقلي!" وهي بتتردد في دماغ الرجال، وعليه، مكانش قدامي إلا إني أتدخل وأقول للراجل "لأ يا حاج مقلي إيه.. انتم بتعملوه أحلى حاجة هنا إيه؟". ولثواني، كنا فيها على وشك الهرب من مذبحة الجمبري المقلي، وش الرجل فضل ثابت، قبل أن يلين قليلًا وهو بيقول: "بنشويه فراشة مع الزبدة حلو، تجربوه؟"، وقَد كان. عُدنا للترابيزة، وبعد دقيقتين، بدأ عَوَّاد يغني أغاني قديمة، ما بين "شط إسكندرية" و"حلوين من يومنا والله"، ومعاه بدأت بشائر الأكل تهِل. في الأول، كعادة كل محلات جمهورية مصر العربية، غرقنا في السلطات؛ طحينة وبابا غنوج وبصارة وسلطة بطاطس مهروسة وباذنجان (يَم يَم!). وبما إن يومها كان شَم النسيم، كان لازم نزيد عليهم سلطة الرنجة. السلطات بشكل عام كانت لطيفة، مفيهاش شيء مذهل ولا شيء سيء، كلها في المستوى المتوسط، وإن كانت الثومية شهية جدًا. سلطة الرنجة كانت عبارة عن "رنجاية" مقطعة ومعاها سلطة خضرا، وبطارخ. البطارخ كانت تستحق كل شيء في الحياة من فرط حلاوتها، إنما السلطة نفسها كانت عادية، لأن كمية الرنجة كانت أقل من كل تصوراتنا. شوربة السي فوود لحقتهم بعدها بلحظات، وكانت خيبة أمل كبيرة الحقيقة. الشوربة خفيفة جدًا، قوامها أشبه ما يكون بالماء، ومفيهاش طعم دسم كفاية ولا فيها سي فوود كافي. أنا كنت متوقع أكثر من كده بكثير من زفير فيما يخص الشوربة الحقيقة. مكرونة السي فوود كانت شهية، وإن كان ينقصها شوية كريمة في الصوص بتاعها. مكرونة فراشة، مع صوص أبيض وجمبري صغير، شهية وخفيفة وواجبة مع أي استفتاح سي فوود. وكذلك طواجن الكاليماري، الأبيض والأحمر. طاجن الكاليماري الأبيض كان مقدما لينا في صدفة كبيرة، وكان عبارة عن كاليماري مع صوص أبيض وطبقة من البشاميل من فوقه، باختصار، الطاجن مفيهوش حاجة واحدة متتحبش. جهز شوكتك وانزل غوص فيه، أو للدقة، حاول تلحق تغوص فيه لأنه حيتنسف في دقائق. الطاجن الأحمر كان طاجن كاليماري عادي متسوي في صلصة حمرا كثيفة ونازلة بتغلي من فرط السخونة. يكفي إنه من كُتر حلاوة الطاجن الأحمر، أنا نسيت إني المفروض أصوره من أساسه. بالنسبة للكابوريا، واحدة من الحاجات اللي مفيهاش مجال للغلط أو العك، فكان المعيار الأول والوحيد هو "الكابوريا ده فيها بطارخ؟"، وللي ميعرفش، بطارخ الكابوريا هي الشيء برتقالي اللون اللي بتلاقيه لما تفتح صدفة الكابوريا. وبهذه المناسبة، أحب أقول شكرًا جدًا لمطعم زفير على إن كل الكابوريا كانت مبطرخة زي ما الكتاب بيقول. بالنسبة للغنيمة الكُبرى، الجمبري الفراشة، والفراشة هي ببساطة إنهم بيشقوا الجمبري من النص. باختصار، بدل ما أحكيلكم ال12 تحدي اللي خاضهم هرقل، الجمبري الفراشة المشوي بالزبدة مكانش أروع شيء في الوجود، ولا كان إكسير الحياة، ولا كان يستدعي الصدمة العصبية اللي الراجل حسسنا بيها. الجمبري مكنش فيه أي لمحة مَلح، والزبدة كان طعمها خافت للغاية، ولحم الجمبري ذاته كان جاف جدًا ومفيهوش طعم. باختصار، لو إسكندراني استنكر عليك اهتمامك بالجمبري المقلي، 11 متستمعش كلامه وكل الجمبري مقلي. آخر شيء طلبناه، وده كان فعلًا خير ختام، كان صينية سردين باللمون والزيت. صغر حجم السردين وطعمه مع الزيت واللمون كان رائعا، بس حيبقي صعب على ناس معينة تأكله لو عايزين يشيلوا منه الشوك. (ممكن باختصار تكتفي بإزاحة العظم الفقري للسردين وتأكلها زي ما هي كده). كل الأكل اللي فات بالسلاطات ودور الشاي من بعد الأكل والعيش كلفنا 690 جنيه (4 أفراد)، لكن للحق، روحنا شبعانين ومبسوطين. (اعتذار عن ظهور نور الدين في الصورة، للأسف كان في حالة انسجام مع الأكل وقتها لا يمكن معها التواصل بشكل فعَّال معه) زفير كان واحد من المحلات اللي حبيتها بشكل عام، وهو يلائم فكرتي الخاصة عن أكل السمك، إن أكل السمك يليق عليه أكثر الأماكن البسيطة غير المتكلفة اللي ممكن فيها تشمر وتغطس في الأكل اللي قدامك بدل ما تاكله في فندق فخم ببدلة وتحتاس وانت نفسك تفصص الأكل وتاكله بايدك بل الشوكة والسكين الفضة. ولجميع سكان القاهرة، بحر وهوا وأكل إسكندرية يستاهلوا مننا مشاوير أكتر من كده، في جزء من الروح بيرجع للي يشوف بحر إسكندرية.. دوروا على الجزء الحَي من أرواحكم هناك. عطف على الملحمة أحب أتقدم بالشكر للسادة القائمين على إدارة قرية "مارسيليا بيتش 2"، اللي حبوا يشركونا في ملحمة لطيفة من صنعهم، فنفاجئ بعد ما نقطع المشوار من القاهرة لطريق العلمين للقرية، والقيادة في مصر ملحمة نفعلها كلنا بشكل يومي، غافلين عن كونها ملحمة حقيقية تستحق التخليد في كل كتب الأدب العالمي، بأن القرية للعائلات فقط، وأن الإدارة هناك مستغربين جدًا أن لسه في مصريين ميعرفوش المعلومة الحيوية للغاية ده، بالرغم من إن مندوبي المبيعات والحجز لديهم لم ينطقوا حرفًا عن كون القرية للعائلات فقط. أعزائي، كل شخص يعمل بخدمة العملاء أو يدرسه فخور بكم لأقصى درجة. شكرًا لكم.