في مدينة الأقصر، وقبل ما يفوق ثلاثة آلاف سنة، عرف قدماء المصريين الاحتفال بشم النسيم، أو عيد الربيع، بالخروج إلى الحدائق والشواطئ والشوارع والميادين. وجاءت احتفالات مصر، أمس الاثنين، بشم النسيم مترافقة مع إعلان حالة الطوارئ داخل المستشفيات والوحدات الصحية، بسبب التهام المصريين مئات الأطنان من الفسيخ والأسماك المملحة والبيض، حيث اصطفت عربات إسعاف قرب كل حديقة، على امتداد كورنيش النيل في مدينة الأقصر وغيرها من المحافظات المصرية، بحسب ما ذكرته صحيفة «الشرق الأوسط»، في عددها الصادر، اليوم الثلاثاء. وقالت الباحثة هويدا علي، إن مدينة إسنا، التاريخية الواقعة في جنوب محافظة الأقصر، كانت المدينة الأولى التي شهدت ولادة الفسيخ. وعرف المصريون أكل السمك المجفف «الفسيخ» ضمن طقوس احتفالاتهم بعيد «الشمو»، المعروف اليوم باسم «شم النسيم»، منذ عصور الفراعنة، وكانوا يستخدمون نوعا من السمك يسمى «قشر البياض» في إعداده. وكانت مدينة إسنا من المدن الشهيرة في تقديم الأسماك المجففة كنذور في المعابد، حتى صار السمك المجفف رمزا للمدينة في العصر البطلمي، وصار اسمها «لاثيبولس»، أي مدينة «سمك قشر البياض». عرف المصريون أنواعاً عدة من الأسماك، التي رسموها على جدران مقابرهم، مثل البوري والشبوط والبلطي والبياض، كما عرفوا «البطارخ» منذ عصر بناة الأهرام. وفي أحد الأعياد كان الشعب كله يأكل السمك المقلي أمام أبواب المنازل في وقت واحد، وكانت مظاهر الاحتفالات بحلول الربيع، تقام دائماً على ضفاف النيل ووسط الحدائق والساحات المفتوحة، وهو أمر شائع لدى جموع المصريين حتى اليوم. أما الأقصر، وفق الباحثة، منى فتحي، عرف أهلها «تقديس» الزهور منذ آلاف السنين، إذ كانت زهرة اللوتس هي رمز البلاد، كما كان يقدمها المحبوب لمحبوبته، وتزخر المقابر الفرعونية بالصور المرسومة على جدرانها لصاحب القبر وهو يشق طريقه في قارب وسط المياه المتلألئة، بينما تمد ابنته يدها، لتقطف زهرة لوتس. وكانت أعواد اللوتس تقدم ملفوفة حول باقات مشكّلة من نبات البردي ونباتات أخرى، كما تشكَّل باقات الورود اليوم. ونرى أعمدة المعابد الفرعونية مزخرفة في طراز «لوتسي» يحاكي باقات براعم الزهور، إضافة إلى صور المصريين أنفسهم على جدران مقابرهم ومعابدهم، وهم يشمون الأزهار في خشوع يرجع بعضه إلى الفرحة ويوحي بسحر الزهور لديهم. واحتوت السنة المصرية القديمة على العديد من الأعياد، التي ارتبطت بالتقويم، مثل رأس السنة وأعياد كل شهرين وبدايات الفصول، وكان من بين تلك الأعياد، كما ذكرت الباحثة نجلاء عبد العال الصادق، عيد «الشمو» الذي يعرف اليوم باسم «عيد الربيع» أو «عيد شم النسيم»، فضلا عن عيد «مين»، إله الخصوبة في مصر القديمة، من الأعياد التي احتفل بها المصريون في فصل الربيع. وكان تمثال الإله «مين» يقام غالباً وسط مربع من نبات الخس، وكان الربيع الذي يغير معالم ما بين الفصول عيداً عند المصري القديم لارتباطه بالشمس والنهر، وكانوا يتناولون فيه السمك والبصل والبيض، وصارت تلك المأكولات تقليداً ثابتاً من مظاهر الاحتفالات بأعياد الربيع في مصر منذ نهايات العصر الفرعوني وبدايات العصر القبطي. وكما في أيام الفراعنة، فإن تجارة بيع الزهور والورود تنشط في يوم شم النسيم، وتنشط معها حركة التنزه وسط الحدائق، وخروج الناس إلى شاطئ كورنيش النيل، حيث يفترشون الأرض ويأكلون الفسيخ ويلوّنون البيض في صورة لما كانت تشهده الأقصر قبل آلاف السنين.