على نسق عبارة شهيرة سادت فى السبعينيات «نحن جيل بلا أساتذة» تعلو الآن نزعة مماثلة بلهجة أكثر حدة تدمغ الحاضر كله بأنه «دولة العواجيز». فى الحالتين فإن فجوة الأجيال تتجاوز طابعها الأخلاقى وانفلاتها اللفظى إلى حقائق اجتماعية وسياسية لا يصح تجاهلها أو غض البصر عنها. فجوة الأجيال من طبيعة حركة المجتمعات عند انعطافاتها الحادة وللحقائق منطقها الذى يتجاوز المواعظ الأخلاقية. الشطط من طبيعة الأجيال التى تتقدم للمستقبل فلو أنها فكرت على ما هو معتاد وتقليدى وثابت فإن أدوارها تنتفى قبل أن تبدأ. والشطط من طبيعة الحرية فلو أنها التزمت بما تقرره لها أجيال سبقتها فإنها تودع نفسها مقابر الصدقة قبل أن تبدأ رحلتها مع الحياة الفوارة. فى التعبير السبعينى تجاوز فادح لتراكم المعرفة والخبرات ونفى مجانى لأدوار الرواد الكبار فى السياسة والأدب والثقافة والصحافة والعلم وفى التعبير المستجد تجاوز فادح آخر لتراكم العمل الوطنى جيلا بعد جيل والإسهامات الكبرى فى التاريخ المصرى المعاصر. لا السبعينيون بلا أساتذة ولا الأجيال الجديدة بلا آباء. من مفارقات التاريخ أن السبعينيين يلاقون اليوم اتهامات أقسى مما وجهوه للأجيال التى سبقتهم بقسوة لفظ وتجاوز معنى. فى تجربة السبعينيات استلهم جيلها الحركة الطلابية الفرنسية واعتمد تقنيات «مجلات الحائط» فى تبادل الآراء والنقاش حولها وتأثر بدرجة ما بمقولات الفيلسوف الألمانى «هربرت ماركيوز» التى تسند إلى الحركات الطلابية أدوارا أكبر فى التغيير تفوق ما تسنده النظريات التقليدية إلى الحركات العمالية. بدا عنوان مسرحية شهيرة للكاتب البريطانى «جون اسبورن» التى كتبت عام (1956) كأنه أيقونة الجيل الخاصة: «انظر إلى الوراء فى غضب». امتد تمرده من طلب المشاركة فى صناعة القرار السياسى والدعوة إلى تعبئة موارد الدولة لخوض حرب تحرير الأرض التى احتلت عام (1967) إلى ذائقة فنية جديدة وشكل مختلف فى الزى والهيئة العامة. التمرد ذاته بروحه ومنطقه يجد طريقه إلى عصر جديد بوسائل مختلفة، فالأجيال الجديدة تنظر خلفها وأمامها فى غضب، وغضبها يمتد من الحياة السياسية والدولة ومؤسساتها إلى الذائقة الفنية ولهجة الكلام والمصطلحات الشائعة الجديدة والزى والهيئة العامة. كأن جيل السبعينيات أودع فى أبنائه جيناته السياسية ودفع فى الوقت نفسه فواتير التمرد عليه. جيل السبعينيات حمل مسئولية العمل الوطنى على مدى أربعين عاما، حارب ضمن من حاربوا على جبهات القتال الأمامية لست سنوات كاملة، لكنه لم يحصد نتائج تضحياته فى ميادين القتال وذهبت جوائزها لمن لم يعبروا على الجسور تحت وهج النيران المشتعلة. المأساة ذاتها حصدتها فى ظروف مختلفة الأجيال الجديدة التى ضحت بدمها فى ميادين الثورة ولم تحصد شيئا فى نهاية المطاف. فى عملية التجريف المنهجية على مدى نحو أربعة عقود ضعفت مناعة السبعينيين إلى حد كبير وتآكل الجيل تدريجيا غير أن طلائعه التى حفظت أحلامه اضطلعت بواجبها فى اعتراض مشروع التوريث وتصدرت المواجهة فى حركة «كفاية» وحركات احتجاجية أخرى قبل أن تلتحق الأجيال الجديدة بالآباء المؤسسين وكان دخولهم ضروريا لتغيير المعادلات كلها. فى لحظة التغيير الكبرى تكاملت الأجيال كما لم يحدث من قبل وتوحدت الإرادة الشعبية بصورة استثنائية وتصدرت موجات الشباب الجديد المشهد التاريخى.. لكن الفجوات اتسعت بعد ذلك. لم يكن هناك حوار جدى ولا تصور مشترك ولا مشروع يجمع وجرى القفز على الثورة وسرقتها. كانت هناك أهداف عامة للثورة ولم تكن هناك مبادئ توضح وترشد وتقود. معضلة الأجيال الجديدة أن إنجازها الأكبر رافق بدايتها على عكس مسيرة الأجيال التى توالت من مطلع القرن العشرين حتى الآن. جيل ثورة (1919) اكتسب رؤيته لعصره وتحدياته بعد الحرب العالمية الأولى ومن تراكم خبراته إثر إحياء الحركة الوطنية على يد الزعيم الشاب «مصطفى كامل».. وجيل ثورة (1952) اكتسب أفكاره وتحدياته ومعاركه من عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ولخصتها بصورة ما الحركة الطلابية عام (1946) وتفاعلات الحرب فى فلسطين عام (1948) والنزعة القوية داخله للكفاح المسلح فى مواجهة معسكرات الاحتلال البريطانى فى الإسماعيلية قبل أن يجىء جيل السبعينيات متأثرا بصدمة الهزيمة ورافضا أسبابها وامتدت تجربته إلى حرب أكتوبر وتصدى بعدها للانفتاح الاقتصادى وقططه السمان وكامب ديفيد وأخطارها المحدقة. كانت قمة إسهاماته بعد تجربة الحرب ثورة لم تكتمل فى انتفاضة الخبز عام (1977). الأجيال الجديدة لم تتح ظروفها أمامها فرصة أى تجربة سياسية أو فكرية تمهد لدورها الكبير فى يناير (2011) مما سهل سرقتها بصورة شبه علنية وشبه كاملة. قسوة السرقة العلنية استدعت اتهامات متبادلة، فالأجيال الجديدة حَملت مسئولية التراجع للأجيال المخضرمة التى لم تؤد دورها فى بلورة قوة ثورية على الأرض قادرة على الإمساك بالسلطة المعلقة فى الهواء وتركتها لمن خطفها بسهولة ويسر، والأجيال الأقدم حملت شبابها حماقة التماهى مع شعارات أفضت إلى تمكين الإخوان المسلمين من السلطة بلا قيد أو شرط أو دستور. الاتهامات المكتومة استحالت إلى فجوة أجيال معلنة من الصعب إنكارها. بشىء من الاختزال فإن جيلا يرى أن ما قبله انتهى وآخر يرى أن ما بعده نزق. فجوة الأجيال أخطر من أن تمثلها جماعة سياسية بعينها أو فريق شبابى دون آخر. الأزمة سياسية واجتماعية قبل أن تكون تنظيمية وتتمدد بدرجات مختلفة فى بنية الأجيال الجديدة وتبدو بأعلى درجات حدتها داخل الطبقة الوسطى فى فئاتها الأكثر تعليما وإطلاعا على العصر. فى عبارة: «دولة العواجيز» إشارات لا يصح أن تفلت فى صخب الإدانات الأخلاقية. العبارة ذاتها صاغها شبان غاضبون على شبكة التواصل الاجتماعى لا نشطاء سياسيون بالمعنى التنظيمى المتعارف عليه. ورغم ما تنطوى عليه من تجاوزات فإنها تفصح عن حقائق، فمتوسط عمر المسئولين فى الدولة أعلى مما تحتمله أية دولة ديمقراطية فى العالم. المأساة هنا أن مصر دولة فتية وشابة ونسبة من هم تحت سن الخامسة والثلاثين تقارب ثلثى سكانها. بالقياس على تجربة ثورة يوليو فإن «جمال عبدالناصر» كان فى الرابعة والثلاثين من عمره وهو يتصدر المشهد السياسى كله. الثورة الشابة بمعايير سن قادتها استدعت إلى المناصب التنفيذية فى الدولة كفاءات ومواهب من الجيل نفسه. نفتقر الآن بصورة فادحة إلى التجديد الضرورى والحيوية اللازمة فى بنية الدولة وهناك حالة إحباط من عدم ضخ دماء جديدة فى شرايينها المتيبسة. تخفيض مستوى الأزمة شبه المعلنة فى فجوة الأجيال أقرب إلى دفن الرءوس فى الرمال. هناك تجاوزات فادحة فى لغة التعبير عن الأزمة لكنها تستند على شىء حقيقى. فى فجوة الأجيال انسداد فى القنوات السياسية. القضية ليست تمثيلا شكليا لبعض قيادات الشباب فى مناصب تنفيذية أو دعوات متكررة لحوار يفتقد جديته وبعض جلساته أقرب إلى الهزل السياسى فى موطن الجد، فلا الدولة جادة فى حواراتها ولا الأحزاب حاضرة فى المشهد ولا قضية الأجيال الجديدة محل اعتبار إلا بقدر ما تؤثر على الأمن. فكرة الحوار صحيحة بتوافر جديتها وانفتاحها على المجتمع كله فى إجراءات تطمئن على سلامة الحريات العامة. ورغم ما تنطوى عليه الوثيقة الدستورية الجديدة من إنجازات حقيقية فى مجالى الحقوق والحريات العامة فإن الشكوك لا تراوح مكانها وبعض التصرفات تشى باحتمالات عودة السياسات القديمة. قضية الأجيال الجديدة هى ذاتها قضية الحرية. تخطئ بفداحة بعض جماعاتها وتشتط بقسوة فى تعبيراتها لكن اعتقادها فى قضيتها مسألة مستقبل.