لم يكن الاجتماع الوزارى عاديا فى توقيته وموضوعه. كانت اللجان العامة للاستفتاء تعلن نتائجه على التوالى والشرعية الجديدة تؤكد نفسها فى صناديق الاقتراع والثقة فى المستقبل على الوجوه. فى تقديره للموقف الأمنى السياسى قبيل احتفالات «ثورة يناير» تحدث وزير الداخلية اللواء «محمد إبراهيم» خارج سياق اللحظة الانتصارية مبديا انزعاجه، وكان ذلك لافتا ومثيرا، من الحملات الإعلامية على الثورة وشبابها التى تفضى إلى اصطناع «قسمة فى البلد تضر بأمنها» على ما قال نصا. بدأ الحوار يأخذ سخونته وجديته. تبارى وزراء بخلفيات مختلفة فى إدانة تلك الحملات وآثارها الوخيمة على صورة الحكم والمستقبل المصرى. فى مداخلته قال وزير الدفاع «عبدالفتاح السيسى» قاطعا: «لا عودة للوراء مطلقا». فى سياق حديثه قصد نظامى الرئيسين السابقين: «حسنى مبارك» و«محمد مرسى». كلام المسئول الأمنى الأول نظر إلى الأزمة من زواية تعنيه وتقلقه واحتفالات «يناير» تقترب بأخطارها المحتملة وكلام الرجل الذى يتهيأ لحسم رئاسة الدولة نظر إلى الأزمة ذاتها من زاوية التزاماته المستقبلية. فى المداخلتين إقرار ضمنى أنه لا يمكن تجاهل قضية الأجيال الجديدة لا فى الحساب الأمنى ولا فى الاستحقاق الرئاسى ولا فى أى اعتبار له صلة بالمستقبل. ما هو متاح من معلومات يؤشر إلى توجه يفتح صفحة جديدة فى التاريخ المصرى لا تستنسخ عهدا أطاحه شعبه ولا تسمح باستعادة عهد آخر كاد يدفع البلد إلى احتراب أهلى مدمر. التطمينات العامة فى اجتماعات وزارية مغلقة لا تكفى مالم تسندها سياسات واضحة أمام الرأى العام وأجياله الجديدة توضح بيقين: إلى أين نحن ذاهبون.. وبمن يتقدم الرئيس القادم لنيل الثقة العامة فى سلامة الحكم الجديد.. وبأية رؤية سوف تحكم مصر فى سنواتها العسيرة المقبلة؟ فى أية معادلة حكم يطلب ظهيرا سياسيا متماسكا تحت وطأة أزمات ضاغطة فإن الأجيال الجديدة بمعناها الاجتماعى قبل التنظيمى رقم صعب يستحيل تجاوزه. أرقام الاستفتاء تلخص المشهد العام كأنها صور ملتقطة عبر الفضاء للخرائط السياسية الجديدة وبعضها يؤشر إلى انخفاض فى نسبة مشاركة الشباب قياسا على النسبة العامة. الأرقام يمكن تأويها وإعادة تفسيرها وفق الأهواء السياسية غير أن المشاعر العامة التى يمكن رصدها فى كل بيت تقريبا تومئ إلى أزمة ثقة ما بين الأجيال الجديدة والدولة العائدة. الظاهرة المقلقة لا تلخصها على أى نحو مجموعات النشطاء السياسيين على تنوعها وتعددها وانشقاقاتها وهناك ثلاثة افتراضات جوهرية فى تفسيرها. أولها: يرجع تدنى نسبة المشاركة إلى الانشغال بالامتحانات العامة على ما ذكر رئيس اللجنة العليا للانتخابات فى مؤتمره الصحفى. ثانيها: ينسب تدنى هذه النسبة إلى عزوف معتاد من الشرائح العمرية دون الثلاثين سنة عن أية استحقاقات بصناديق الاقتراع. ثالثها: يلفت إلى أن الظاهرة فى صلبها تشى بأزمة أوسع فى مداها من أن تنسب لجماعات شبابية بعينها وتنطوى على تعارض ما بين طلب عودة الدولة إلى وظائفها وأدوارها على ما تؤكد أغلبية المجتمع وبين طلب الحرية وخشية التغول عليها تحت أية ذريعة على ما تدعو قطاعات فاعلة داخل الأجيال الجديدة. الافتراضان الأول والثانى ينزعان إلى تخفيض مستوى الأزمة وإحالتها إلى ظرف طرأ أو اعتياد ترسخ، بينما الثالث يرصد الظاهرة فى تفاعلاتها الصاخبة والمكتومة ويأخذها على محمل الجد لا الاستهانة بها. الحكومة انحازت إلى الافتراض الثالث ربما تحت تأثير الأجواء التى تستبق احتفالات يناير وقررت تشكيل «فريق حوار» يضم وزراء تربطهم صلات وثيقة بجماعات الشباب لاستطلاع رؤاها ومخاوفها. بحسب المعلومات الأولية فإن الحوار يشمل الفاعليات الشبابية كلها بلا استثناء واحد وهناك ميل ألا يكون معلنا حتى التوصل إلى أرضيات مشتركة. المبادئ العامة لا تؤدى وحدها إلى طمأنة المخاوف من إعادة إنتاج «نظام مبارك» أمنيا واقتصاديا. المخاوف لها ما يبررها فى المشهد العام فقد وصلت الحملة على «يناير» إلى مستويات استباحة سياسية وأخلاقية لا سابق لها. هناك فارق جوهرى بين حق النقد والمراجعة الضرورية للأخطاء والخطايا التى ارتكبت وأفضت إلى ذهاب جوائز الثورة لغير أصحابها وبين هدم شرعيتها ووصمها إجمالا بأنها كانت «مؤامرة». المبالغة فى المخاوف من طبيعة أجيال مازالت تكتسب خبرتها السياسية ولا تصدق غير ما ترى. أرقام الاستفتاء نفسها تؤشر إلى عجز فادح فى الصعيد لشخصيات محسوبة على «نظام مبارك» فى الحشد والتعبئة كما أن الانتخابات النيابية الأخيرة كشفت نتائجها عن هزيمة ساحقة لوجوهه المعروفة. النظام الذى أسقطه شعبه لن يعود من جديد غير أن هناك مصالح كبرى تبحث عن دعم وحماية وحزب «كل رئيس» جاهز ومستعد بطلب أو غير طلب.. وفى المشهد المعقد فإن هناك من يريد أن يحرج الرئيس القادم ويدفعه إلى أن يمضى فى خيار يناقض الأسباب التى دعت شعبه للرهان عليه. هناك صراع ضارٍ على قلب وعقل الرجل القادم إلى رئاسة الدولة، وهو عليه أن يختار بين أن يدخل التاريخ من أبواب القادة الكبار الذين انحازوا إلى شعوبهم أو من أبواب أخرى تعيد إنتاج الأزمة بوجوه جديدة. فى الصراع الضارى ظلال تتبدى هنا وهناك ومن بينها أزمة «التسجيلات الهاتفية المسربة» التى انفلتت عن أية قواعد قانونية وأخلاقية. القانون تحكمه إجراءاته وتغييبه يعنى أن الفوضى ضربت كل شيء. الحساب لازم لكن وفق القانون لا الخروج عليه. فيما هو منسوب إلى الفريق أول «عبدالفتاح السيسى» صحيحا ودقيقا أنه قال: «أقسم أننى لا علاقة لى بهذه القضية من أولها إلى آخرها وأرفض استخدام وسائلها لتصفية الحسابات السياسية ولا أقبلها لأحد صديقا أو خصما».. قبل أن يردف لمحدثيه مستشهدا بتجربته على رأس المخابرات العسكرية: «لم استخدم فى أى اجتماع للمجلس العسكرى ولا أشرت أبدا إلى أية معلومات تتعلق بالحياة الشخصية لأى طرف أيا كان». وفى قصة يطول شرحها تدخل لوقف المهزلة التى يتعين ألا تتكرر مرة أخرى. هذه إشارة إيجابية أخرى من رجل يتأهب لحسم رئاسة الدولة تساعد على الحوار والتوصل إلى رؤى مشتركة تحفظ للدولة قدرتها على حسم الحرب مع الإرهاب وتصون للمجتمع حرياته العامة دون تغول عليها. الحرية هى القضية الرئيسية للأجيال الجديدة، لا مصادرة لرأى ولا منع لتظاهر سلمى ولا قداسة لحاكم وأن مصر تستحق نظاما أفضل يلتحق بعصره وقيمه الرئيسية. هناك شطط فى طريقة التعبير دون مراعاة لظرف استثنائى تخوض فيه الدولة حربا على الإرهاب لكنه من طبيعة الحرية فلا توجد حرية معقمة. الالتزام النهائى بقضية الحرية، أيا كانت الآثار الجانبية، مسألة ضرورية لسلامة المستقبل والتحول إلى الديمقراطية، فلا حرية بلا أحرار ولا ديمقراطية بلا ديمقراطيون. الحوار الضرورى مع الأجيال الجديدة يستوجب من الدولة العائدة أن تكون واضحة فى التزاماتها بضرورات أن تكون هناك خطوط فاصلة ما بين «الأمن والسياسة» بحيث لا يتغول الأول على الثانية وأن تغلق أية ملفات مفتوحة بالوسائل القانونية لا غيرها وأن تكون على ذات الوضوح فى تفعيل «العدالة الانتقالية» وإعادة النظر ب«قانون التظاهر» وفق ملاحظات المجلس القومى لحقوق الإنسان. فى الوقت نفسه، فإن الحوار الضرورى مع الأجيال الجديدة يتطلب أن تراجع بنفسها على نحو جاد تجربتها العميقة على مدى ثلاث سنوات وألا تكرر لمرات جديدة الأخطاء الفادحة التى ارتكبت وكانت أثمانها السياسية والإنسانية باهظة.