حاورته «الشروق» فى الشهور الأولى من توليه منصبه فى هيئة التنمية الصناعية فى نهاية 2012، ويأتى حوارها الثانى مع محمود الجرف قبل انتهاء مدة تعاقده مع الوزارة بشهرين، وإن كان الفارق الزمنى بين الحوارين ليس كبيرا، لكنه بدا أقل حماسا فى المرة الثانية مع ما واجهه من عقبات خلال تجربة ترؤسه للهيئة، خاصة من جماعات المصالح وتفتت القرار بين أجهزة الدولة، على حد قوله. الجرف تحدث ل«الشروق» حول الملفين اللذين يمثلان عنق الزجاجة بالنسبة لقطاع الصناعة فى الوقت الحالى، وهما إتاحة الأراضى والطاقة للصناعة من جهة، وعدم صدور قانون الصناعة الموحد الذى يفترض ان يساهم فى تيسير إنشاء المشروعات الصناعية من جهة أخرى. • منذ اندلاع ثورة 25 يناير، دائما ما كانت هناك شكوى من قلة الأراضى الصناعية المتاحة للتوسع.. وتم الإعلان أكثر من مرة عن قرب الإعلان عن خريطة صناعية للأراضى المتاحة، والتعاون مع جميع الجهات المختصة لتوفير الأراضى، إلا أنه حتى الآن لم تتخذ أى خطوة إيجابية فى هذا الأمر.. بماذا تفسر ذلك؟ دم الأراضى الصناعية متفرق بين القبائل المختلفة، وهذه ليست المشكلة، ولكن التصارع بين هذه القبائل هو التحدى الحقيقى. فهناك 4 جهات حكومية تتولى الإشراف على الأراضى الصناعية، وهى هيئة المجتمعات العمرانية، ووزارة الاستثمار، والمحافظات، وهيئة التنمية الصناعية، كما ان السياسات الحالية لطرح الاراضى الصناعية تجعل المستثمرين يتعاملون معها بمنطق التنمية العقارية، حيث يمكنهم النظام القائم من الاحتفاظ بها لفترة طويلة لرفع ثمنها، بينما يفترض فى اراضى الصناعة ان تكون منخفضة التكلفة. وبالرغم من تحديد الهيئة لحجم الأراضى المتاحة التابعة لكل جهة، إلا أنه منذ الثورة، لم يتم طرح أية أراضٍ للمستثمرين، وذلك بسبب عدم وجود خطة واحدة وعدم تضافر الجهات المختلفة لتيسير اتاحة الاراضى، على سبيل المثال، لقد نجحنا فى حل مشكلة الأراضى مع المجتمعات العمرانية، وتم تحديد فوارغ الأراضى المتاحة لديهم ويبلغ عددها 1692 قطعة، موزعة بين بدر والعاشر، وتمثل نصف الأراضى المتاحة لدى المجتمعات العمرانية، والتى تبلغ فى الإجمال 5.4 مليون متر مربع، وقد تم طرح هذه الأراضى منذ يناير 2013، وتقدم لها ما يقرب من 8000 آلاف مستثمر، وتم اختيار المستثمرين الذى لبوا الشروط، وسلمنا الموافقات إلى الهيئة، إلا أنه حتى الآن لم تقم الهيئة بعملية القرعة لتوزيع الأراضى، والرد الذى نتلقاه حتى الآن، فالهيئة ليست جاهزة بعد، وذلك بالرغم من وجود كل المعلومات اللازمة الخاصة بهذه الأراضى، من توزيع الأنشطة، وتقسيم المساحات. • وهل تم تسعير هذه الأراضى الصناعية؟ نعم، ولكن لم يكن للتنمية الصناعية دور فى ذلك، فهيئة الخدمات الحكومية، هى التى قامت بعملية تحديد السعر. • وما هو السعر الذى ستباع به اراضى المجتمعات العمرانية؟.. وهل وصل إلى مستويات لا تمثل عبئا على النشاط الصناعى من وجهة نظرك؟ لا يزال السعر مرتفعا، فالهيئة قدرت قيمة الأرض، وفقا للتكاليف التى تحملتها لتهيئة الارض للطرح، وهذا وصل بسعر متر الأرض إلى أكثر من 500 جنيه، وهو ما يمثل نحو 25% من تكلفة المشروع الصناعى، وهذه نسبة مرتفعة جدا، فمن المفترض أن تتراوح نسبة الأرض من إجمالى تكلفة المشروع، ما بين 7 و10%. ولكن لننظر إلى الجانب الإيجابى، فهذه الأراضى الصناعية بعدما كانت موجودة «فى الدرج»، باتت متاحة حاليا وإن كان هذا وحده لا يكفى. • وهل ستتاح أراض اخرى بخلاف طرح المجتمعات العمرانية الجديدة؟ الهيئة كانت قامت فى وقت سابق برصد تفاصيل الأراضى التى تزيد على 30 كيلومترا فى 35 منطقة فى نحو 20 محافظة، واتفقت مع وزارة المالية عام 2008 على تخصيص 5 مليارات جنيه لتطويرها. ولكن ما تم صرفه من هذه الميزانية كان 2 مليار جنيه فقط حتى 30 يونيو 2013. واتفقنا مع وزارة المالية على صرف الجزء المتبقى على ثلاث مراحل قبل 30 يونيو 2014 ضمن خطة التحفيز. ومن المتفق عليه، ان تقوم المحافظة بالحصول على هذه الاموال لتطوير المنطقة الصناعية، وبيعها، على أن تحول قيمة بيع الأرض «الرمزية» إلى المالية بعد ذلك. وهنا ظهرت مشكلة جديدة، فهناك بعض المحافظات، وهى القاهرة والجيزة والقليوبية وبورسعيد وجنوب سيناء على وجه التحديد، رفضت توقيع بروتوكول مع الجهاز التنفيذى للمشروعات الصغيرة المختص بهذا الملف، وفضلت تحمل تكلفة تطوير هذه المناطق على نفقتها الخاصة، من اجل طرح الأرض لصالحهم، وتحقيق عائد ربح أعلى. قانون الصناعة يواجه حربا ضارية • ماذا تحتاج الصناعة حاليا للوقوف مرة ثانية واستعادة نشاطها؟ تحتاج إلى منهجية وآلية واحدة من أجل تحقيق تنمية صناعية حقيقية، فالمستثمر يريد إطار محدد لكيفية اتاحة الاراضى وهذا لن يتحقق إلا من خلال التعديل التشريعى المقترح بشأن توحيد جهة الإشراف على الأراضى الصناعية، وإسنادها إلى هيئة التنمية الصناعية. وبالرغم من وجود هذا المقترح على مكتب رئيس الجمهورية منذ ما يقرب من 6 أشهر حتى الآن، إلا أن هذا التعديل لم يتم حتى الآن. ولقد اكدنا أكثر من مرة أن هذه الولاية فقط لتخطيط توزيع الأراضى، على أن يكون العائد من نصيب الجهة التى تتبع لها. ونفس الشىء بالنسبة للأراضى التابعة للمحافظات. • لماذا هذا التأخير من وجهة نظرك؟ الصراعات عديدة وكثير من الجهات تمارس ضغوطا من أجل عرقلة هذا القانون. فهذا التعديل يتضمن أيضا فكرة طرح الأرض بنظام حق الانتفاع، وهو ما يعترض عليه كثير من مالكى الأراضى من رجال الأعمال، لأنه لن يسمح لهم ببيع الأراضى التى يمتلكونها، وتحقيق مكاسب كبيرة من أعمال المضاربة عليها. من جهة أخرى، ترفض الجهات الحكومية التى تتبع لها هذه الأراضى التفريط فى حقها فى توزيع الأراضى وطرحها.. «الكل يغنى على ليلاه»، وأنا أتفهم ذلك، فكل جهة تهتم بمجالها أكثر من الصناعة، وهذا التفكك فى المصالح لن يحقق المصلحة العامة. لذلك فأنا أعتقد أن الرئيس قرر إرجاء الملف برمته لحين انعقاد مجلس الشعب لاتخاذ القرار المناسب فيه. • ولماذا تطرحون تخصيص الأراضى بنظام حق الانتفاع إن كان يثير كل هذه الاعتراضات؟ بيع الأراض الصناعية تفريط فى ثورة البلاد، والأهم من ذلك، أننا نتطلع إلى طرح الاراضى الصناعية إلى مطورين ونعفى الحكومة من ضخ اموال فى تنمية البنية الأساسية، فلماذا تدفع الحكومة أموالا فى تلك الاستثمارات، بينما تستطيع أن تترك لمستثمر خاص تحمل هذه النفقات، على أن تسترد الأرض بانتهاء مدة حق الانتفاع، والتى تبلغ كحد أقصى 49 عاما. • نظام المطور الصناعى، فكرة طرحها، وزير الصناعة والتجارة الأسبق، رشيد محمد رشيد، وعلى الرغم من عدم نجاحه بالشكل المطلوب، إلا أننا سمعنا عن اعتزام الهيئة طرح الجيل الثانى منه قريبا.. هل تعتقد أن هذه الفكرة ستشهد إقبالا من قبل المستثمرين لا سيما فى ظل الاضطرابات السياسية التى تشهدها مصر حاليا؟ فكرة المطور الصناعى مناسبة جدا للظروف الحالية، ولكن إذا تم تطبيقها بطريقة صحيحة، تتلاءم مع ظروف البلاد. وهذا ما لم يتم تطبيقه من قبل. ويرجع عدم نجاح التجارب السابقة إلى ثلاث نقاط أساسية، تتمثل فى السعر المرتفع الطارد للأرض للمستثمر الصغير. فالحكومة قامت باحتساب سعر الأرض بطريقة تراكمية، أى أن الحكومة قدرت مجموع تكلفة كل مكونات الأرض من تطوير، وترفيق، وبنية أساسية وغيره، الأمر الذى جعل هذه الأراضى مقتصرة على النخبة من رجال الأعمال، مع استبعاد الشركات الصغيرة والمتوسطة. النقطة الثانية، هى أن عقد المطور الصناعى فى الماضى، كان ثنائيا، أى أنه لم يكن للهيئة أى دور رقابى، مما جعل للمطور الحرية المطلقة فى تحديد سعر الأراضى، مما كان سببا فى رفع سعرها. أما عن النقطة الأخيرة، فهى تتعلق بالزامات التخطيط المفروضة على المستثمر من قبل العقود المبرمة، وهى تتمثل فى الزام المستثمر بمساحات شاسعة من الخدمات، لا تتفق مع الواقع ولا مع احتياجات المنطقة. وكل هذه النقاط سيتم تفاديها فى نظام الطرح الجديد. الطاقة معضلة أزلية تواجه قطاع الصناعة • نتحدث عن استثمارات وتسهيلات لمشروعات صناعية جديدة.. وعن أراضٍ شاسعة سيتم إتاحتها.. ولكن ماذا عن الطاقة؟ هل الحكومة قادرة على توفير الطاقة اللازمة لهذه التوسعات، لا سيما مع أزمة الطاقة التى تضرب البلاد؟ الطاقة معضلة أزلية تواجه قطاع الصناعة وتعوق التوسعات الجديدة، ولا بديل عن استيراد الغاز من الخارج، وتوفير «مزيج الطاقة» الذى يضبط المعادلة فى السوق الداخلية. وأقصد ب«مزيج الطاقة»، بدائل الطاقة المتاحة، من فحم، وغاز، وطاقة بديلة، هذا هو التحدى الأكبر الذى يواجه الصناعة. ولكن الأمر هنا يتعلق اكثر بالشركات القائمة التى تحصل على سعر الطاقة مدعوما وفقا لاتفاقيات سابقة لها مع الحكومة، وتعانى حاليا من نقص الطاقة بسبب عدم قدرة الحكومة على تدبير الالتزامات التى اتفقت عليها من قبل، اما عن الشركات الجديدة، فهى لا تريد طاقة مدعومة، ولا تريد حتى مزايا ضريبية، بل كل ما تريده منهجية واضحة تسمح لها بضمان توفير الطاقة التى تحتاجها من استيراد على سبيل المثال أو غيره. • هل سيسبب الالتزام الذى وقعته الحكومة فى السابق بتوفير الطاقة الرخيصة للشركات فى مشكلات قانونية للدولة؟ نعم هذه الشركات، لا سيما شركات الأسمنت والحديد، وإن كانت لم تبد رد فعل قويا بعد، إلا أنها لن تقبل زيادة فى الأسعار بطريقة كبيرة، لا سيما مع وجود عقد موقع من الحكومة يعطيها الحق فى استمرار هذه الدعم، مقابل مبلغ مادى دفعته للحصول على الرخصة، وهو ما قد يؤدى إلى رفع قضايا على الحكومة امام محاكم دولية. • كيف نتحدث عن فرص استثمار جاذبة فى مصر فى ظل كل هذه المشاكل التى تطرقنا إليها؟ هناك عروض للاستثمار فى مصر من مختلف أنحاء العالم.. نتحدث على سبيل المثال عن الإمارات، وعن مستثمرين متفرقين من الاتحاد الأوروبى، ومن آسيا. وفى مجالات متعددة، منها قطاع الصناعات الهندسية، وقطاع الملابس الجاهزة، وقطاع التصنيع الزراعى. المستثمر ليس ساذجا فهو على دراية كاملة بفرص الاستثمار الموجودة فى السوق المحلية، وهو فى انتظار فقط الإطار المنهجى الذى سيعمل فيه، أما عن رجال الأعمال المصريين، فهم لا يتوقفون عن الحديث عن المشاكل التى تواجههم والكوارث.. وهنا أنا أطرح سؤال لماذا لا ينزل الراكب من السيارة إذا كان المقعد يضايقه؟ الرد هو انهم يحققون أرباحا وليست أية أرباح. ولكنهم اعتادوا الشكوى للحصول على المزيد. • هل ساهمت التحولات السياسية بعد 30 يونيو فى زيادة الاستثمارات الصناعية فى البلاد؟ لايوجد فرق بين حجم الاستثمارات الصناعية قبل أو بعد 30 يونيو، وعموما انا اعتقد ان الاقتصاد هو من يحرك السياسة وليس العكس.. وغياب منهجية واضحة للصناعة والأراضى والطاقة هو من يعرقل قدوم استثمارات وليس أى شىء آخر.