نشرت صحيفة محلية تصدر فى مدينة سانتا فيه عاصمة ولاية نيومكسيكو خبرا عن احتفال يقيمه نادى «النميمة الذهبية» بمناسبة مرور 101 عام على إنشاء النادى. وقد قوبل نشر الخبر باهتمام من قراء الصحيفة وأهالى المدينة وتردد صدى الاهتمام فى أنحاء أخرى من الولاية وولايات أخرى، وبخاصة عندما اتضح أن جلسات النادى لم تنقطع على امتداد قرن أو أكثر، وأن العضوية شملت رجالا ونساء، ينتمون لأجيال وأعمار متباينة، وإن كان اغلبها فوق الخمسين ويمتد حتى التسعين. ••• الخبر عن النادى كان كافيا فى حد ذاته لجذب انتباهى. ولكن يجب الاعتراف بأن الإشارة إلى نيومكسيكو فى نص الخبر أضاف إلى شغفى لمتابعة الموضوع، إذ تمتد علاقتى بهذه الولاية الأمريكية إلى ما يزيد على عشر سنوات. كنت هناك ضمن مجموعة من المتخصصين فى قضايا الحرب والسلم نجوب معامل تنتج أحدث ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا فى مجال الرقابة على التسلح. هناك فى تلك المعامل قابلت باحثين، أو قل عباقرة، من الأمريكيين من أصول صينية ويابانية وهندية وروسية يعملون فى وظيفة «الإبداع». مهمتهم التى يتقاضون عليها أجرا هى التفكير. أذكر أنه فى هذه الولاية حيث الشمس ساطعة دائما فى سماء دائمة النقاء قمت برحلة سياحية فى حافلة تقل عددا رهيبا من سيدات امريكيات كبيرات السن. تضمن برنامج الرحلة زيارة لمدينة بسيطة ولكن ساحرة. شيدت مساكنها على نمط الدور التى كان يعيش فيها السكان الأصليون فى أمريكا الوسطى وهم الهنود الحمر. هؤلاء طوروا مساكنهم باستعارة بعض معالم الهندسة الإسبانية، وهذه بدورها استعيرت من النمط الذى استخدمه الفاتحون لإسبانيا من شمال إفريقيا. لاحظت أن المرشد السياحى يتفادى متعمدا ذكر دور العرب والمسلمين وحضارة الأندلس فألمحت إلى هذا النقص برقة شديدة وجاء رده عنيفا. عدت فتدخلت عندما بدأ يشرح تاريخ المدينة التى كنا نجوب شوارعها وميادينها فقال إنها سميت باسم احد كبار القادة الإسبان العظام الذين فتحوا أمريكا الوسطى. أما المدينة فهى البوكيركى. تدخلت مصححا ولكن مداعبا. قلت إنه كان يجب أن تسمى البوركيكى، نسبة إلى الجنرال البرقوقى أحد أشهر الفاتحين الإسبان من أصول عربية. لم يرد المرشد ولم يكن فى حاجة للرد إذ نشبت زوبعة صراخ وهجوم حاد من جانب عدد كبير من سيدات كبيرات فى السن اعتبرن تصحيحى تشكيكا فى صحة التاريخ الأمريكى وتعديا على الدستور والوطن. ••• أعود إلى نادى النميمة الذهبية. فقد اتضح من متابعة الخبر ان النادى، بخبرته الطويلة استطاع أن يجعل النميمة ممارسة اجتماعية طيبة بأن صاغ للنميمة وظيفة مميزة، وهى تبادل الاخبار والروايات بين الأعضاء لاختيار أحسنها وترويجه، وكذلك تصحيح ما يردده الناس بسوء نية أو عن خطأ غير متعمد. وقد تبين لمجتمع المدينة أن النادى استطاع عبر السنين «تمتين» نسيج المجتمعات المحلية وإقامة وشائج قوية داخل العائلات وبين بعضها والبعض الآخر، حين جعل «النميمة» عادة مشروعة لنقل كل ما هو طيب عن الناس والترويج لأعمال الخير. ••• كثيرون يخطئون، أو يرتكبون مخالفة تكون جسيمة أحيانا، وأحيانا أخرى تكون بسيطة لا تؤذى. ولكن يحدث فى معظم الأوقات أن تتغير طبيعة الخطأ أو المخالفة التى ارتكبت بسبب كثرة من تداولوها بالنقل المباشر أو بغيره. يحدث أيضا ان يجد المخالف أو المخطئ صعوبة شديدة فى تصحيح وضع أو تصرف لم يقصد به الإساءة إلى أحد أو إلى شىء، وأدت كثافة تداوله إلى تشويه صورته فى الدوائر التى يتصل بها ويعمل فيها، وقد يرث أولاده وأحفاده هذه الصورة المشوهة. هكذا يخيم القلق والتعاسة على عائلة بل ومجتمع مدينة بأسرها، وفى أحوال كثيرة، يخيم على أجواء دولة بأكملها. كحال مصر هذه الأيام. ••• تختلف المجتمعات فى مدى قبولها أو رفضها النميمة.. حدث فى فرنسا مؤخرا ان سرت نميمة عن علاقة عاطفية نشأت بين أولاند رئيس فرنسا ونجمة سينمائية صاعدة. تسببت النميمة فى نشوب زوبعة، لم تهب الزوبعة لأن النميمة تعرضت لجانب من جوانب حياة خاصة لمواطن فرنسى، تصادف انه رئيس جمهورية، ولكن لأن جهة إعلامية، وفى هذه الحالة صحيفة، اهتمت بالنميمة رغم علمها المؤكد انها تتعلق بخصوصية مواطن. تصورت لو ان الحادث وقع فى بريطانيا أو فى أمريكا، لذهب الثناء كل الثناء إلى الصحفى الذى أطلق النميمة أو تعهد بنشرها، وإلى القناة الفضائية التى أوقفت برامجها العادية لتذيع خبرا عاجلا عن علاقة عاطفية بين اثنين من المواطنين، وإلى جيوش المذيعين والمعدين التى جرى حشدها لتضخيم النميمة والعمل على تطويرها. المحظور الوحيد فى هذه المجتمعات الأنجلو سكسونية هو خرق القانون الذى يقف بالمرصاد لمن يتجاوز بالنميمة حدود الصدق والامانة والتعريض بسمعة المخطئ أو المرتكب ذنبا ولمن يتواطأ مع آخرين بنية التشهير بمواطن أو مجموعة مواطنين. ••• تذكرت تطورين لهما علاقة بما أطلق عليه أحيانا عبارة «النميمة المنظمة». أحدهما فى الصين، عندما سرت نميمة تتعلق بالتصرفات المادية لأحد كبار رجال الحزب الشيوعى وزوجته وابنه. تركز اهتمامنا وقتها على معرفة ما وراء انشغال الدولة، وأقصد أجهزة الإعلام والشرطة ومخابرات الحزب، بتسريب النميمة وتضخيمها وبثها بحيث تصبح «النبأ العاجل» الذى تتزين به شاشات التليفزيون والصفحات الأولى من الصحف كافة. كان وراء النميمة كما توقعت وقتها وتأكدت بعدها، نية المجموعة الجديدة التى تستعد لرئاسة الحزب، إجراء تغييرات كبرى فى قيادة الحزب والدولة وفى سياساتهما الاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الخارجية. كان لازما للمجموعة الجديدة «إشغال» الرأى العام بقضية مثيرة وإعلان الرغبة فى تطهير الحزب من الفساد وعودة الأمن والاستقرار بعد فترة من الاحتجاجات الشعبية والعمالية المكثفة. التطور الثانى كان فى مصر، عندما انطلقت حملة تسريبات عن محادثات هاتفية واتصالات بين مواطنين. وبالفعل حققت الحملة ما يمكن أن يكون أحد اهدافها وهو إثارة «زوابع من النميمة» تلاحق هؤلاء المواطنين المختارين بعناية، وتهدد بالمثل من سار سيرهم وارتكب «اخطاءهم». ••• هناك، نجح نادى النميمة الذهبية فى توثيق الصلات بين أفراد المجتمع. هنا، نجحت «النميمة المنظمة» فى قطعها.