شهدت الساحة المحلية مؤخرا كثيرا من اللبس والجدل حول التسعيرة الجبرية أو التسعيرة الاسترشادية، ما بين فريق مؤيد وفريق آخر معارض، بل وفريق ثالث متخوف من مدى توافر الأدوات والآليات التى تتيح للدولة تطبيق هذه التسعيرة، أيا ما كانت تسميتها. وثار فى هذا الحوار التساؤل حول دور «جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية» فى ضبط الأسعار وتنظيم الأسواق. والأمر الذى لا خلاف عليه أن جهاز حماية المنافسة هو أحد الأجهزة الرقابية شأنه شأن العديد من الأجهزة الرقابية الأخرى، التى يجب أن يتكامل عملها، كل فى مجاله ووفقا لما أنشئ له، مع وزارة التموين والتجارة الداخلية فى ضبط الأسواق وتنظيمها. فمع انتقال مصر فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، من الاقتصاد المخطط الذى تتحدد فيه الأسعار بشكل أساسى بمعرفة الحكومة وأجهزتها التنفيذية إلى اقتصاد السوق، والذى يترك فيه تحديد الأسعار إلى قوى العرض والطلب فى ظل مناخ تسوده المنافسة، كان من الضرورى أن يصاحب هذا التحول إصدار قانون لحماية المنافسة، وهذا ما تم بالفعل، وإن جاء متأخرا نسبيا، حيث صدر القانون رقم 3 لسنة 2005 الخاص بحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، بهدف خلق بيئة تنافسية بين الكيانات الاقتصادية، الأمر الذى يمكن أن يساهم فى توفير المنتجات الأعلى جودة والأقل سعرا. هذا وقد جاء القانون سالف الذكر ليحدد على سبيل الحصر الممارسات الاحتكارية التى يجب أن تجرم، وهى إساءة استخدام الوضع المسيطر، أو وجود اتفاقيات أفقية بين المنتجين المتنافسين فى السوق ذاتها، والتى تعرف بالكارتل، أو اتفاق المنتج مع الموزع أو المورد إذا كان من شأن هذا الاتفاق الإضرار بالمنافسة فى السوق، وهى ما عرفها القانون بالاتفاقيات الرأسية. وفيما يتعلق بقضية ضبط الأسعار المثارة الآن، ودور قانون حماية المنافسة والجهاز فى هذا الصدد، كان من الضرورى توضيح عدة نقاط على النحو التالى: الأسباب متعددة لارتفاع الأسعار: فليس كل ارتفاع فى الأسعار ينطوى بالضرورة على ممارسات احتكارية، فقد يكون هذا الارتفاع انعكاسا لزيادة فى تكاليف الإنتاج، أو ناتج عن التغيرات الموسمية فى الطلب على المنتج أو العرض المتاح، أو على إثر تطوير ورفع جودة المنتج على النحو الذى يؤدى إلى ارتفاع السعر، أو نتيجة قيام الحكومة باتخاذ إجراء من شأنه إضعاف المنافسة بالسوق، كرفع التعريفة الجمركية، أو فتح باب التصدير لمنتج معين، أو وقف منح التراخيص لإنشاء شركات جديدة فى مجالات بعينها، كلها إجراءات يمكن أن يترتب عليها الإضرار بالمنافسة بالسوق، وانخفاض العرض المتاح محليا وارتفاع الأسعار. يمكن التمييز بين نوعين من ارتفاعات الأسعار التى ترجع إلى ممارسات احتكارية، والتى يجرمها القانون المصرى: أولا ارتفاع الأسعار نتيجة استغلال وجشع عدد من التجار أو المنتجين وقيامهم بالاتفاق على رفع الأسعار أو تخفيض المعروض، من أجل تعظيم أرباحهم. ثانيا: ارتفاع الأسعار الذى ينتج عن الممارسات التى قد يقوم بها المنتج أو التاجر المسيطر، والتى يترتب عليها إقصاء المنافسين من الدخول إلى السوق. فقد جرم النوع الأول من الممارسات فى كافة قوانين المنافسة ومن بينها التشريع المصرى، بمجرد إثبات هذا الاتفاق على نحو ما جاء بالمادة رقم 6 من القانون رقم 3 لعام 2005. إلا أنه يجب التأكيد على أن هذه النوعية من المخالفة لقانون المنافسة هى من أصعب إن لم تكن أصعب الممارسات التى يمكن لأجهزة المنافسة عامة إثباتها، وتزداد هذه الصعوبة فى الحالة المصرية فى ظل اتساع نطاق قطاع الإنتاج العشوائى غير الرسمى والذى لا تتوافر عنه البيانات التى يمكن الاستناد إليها فى التحليل، فضلا عن غياب مبدأ الإعفاء الكلى للمبلغ حيث جاء القانون المصرى على عكس العديد من قوانين المنافسة الدولية لينص على جواز الإعفاء الجزئى للمبلغ، وهذا ما شكل عائقا واضحا أمام القدرة على إثبات هذه المخالفات، فقد أكد الواقع العملى عدم فاعلية هذه المادة على الإطلاق حيث لم تسهم فى الكشف عن حالات الاتفاقات الأفقية بين المنتجين منذ إضافتها إلى القانون المصرى عام 2008. ومن الضرورى فى هذا السياق التأكيد على أن ارتفاعات الأسعار التى تنتج عن طمع وجشع تاجر أو منتج فرد دونما وجود اتفاق بينه وبين المنتجين الآخرين وإثبات هذا الاتفاق، لا يعد من المخالفات التى جرمها القانون المصرى، وهو فى هذا ليس ببعيد عن كثير من القوانين الدولية المقارنة. فقد أثبتت التجربة العملية الصعوبة الفنية الكبيرة التى وجدتها أجهزة المنافسة فى العديد من الدول فى تحديد ماهية السعر العادل» أو هامش الربح المعقول الذى يجب أن يطبقه المنتج أو التاجر، والذى يمكن اعتبار أى زيادة عنه استغلالا للمستهلك، فضلا عن الصعوبة العملية الكبيرة فى متابعة تطبيق هذا السعر العادل، والالتزام به فى ظل ديناميكية الأسواق وتغير التكاليف وظروف العرض والطلب، ناهيك عن اتساع القطاع غير الرسمى كما سبقت الإشارة إليه. وفيما يتعلق بالنوع الثانى من ارتفاعات الأسعار التى تنتج عن ممارسات يقوم بها المنتج المسيطر، فقد حدد القانون المصرى فى مادته الثامنة على سبيل الحصر هذه الممارسات التى يحظر على المسيطر القيام بها، والتى يترتب عليها إقصاء المنافسين عن الدخول إلى السوق، وتشمل من بينها، خفض الإنتاج أو تخفيض الأسعار وليس رفعها، حيث يحول خفض الأسعار دون قدرة المنافسين الجدد على دخول السوق. ويظل على جهاز حماية المنافسة أولا، عبء إثبات توافر شروط السيطرة والتى حددها القانون فى ثلاثة شروط مجتمعة، ثانيا، توفير الأدلة والقرائن القانونية والاقتصادية لإثبات الممارسات الاحتكارية التى حددها القانون فى تسع ممارسات على سبيل الحصر. فلا يكفى استحواذ المنتج أو التاجر على نسبة كبيرة من السوق فقط أو حتى توافر مفهوم السيطرة كما جاء بها القانون للجزم بوجود ممارسة احتكارية. ولعله من الأهمية فى هذا الصدد الإشارة إلى غل يد الجهاز فى الحصول على البيانات والمعلومات المطلوبة لتوفير دلائل الإثبات، فى ظل اتساع نطاق النشاط غير الرسمى من جهة، ورفض بعض الشركات تقديم البيانات المطلوبة بالسرعة اللازمة، بل ورفضها التام لتقديمها فى بعض الأحيان على أثر ضعف الغرامات المفروضة عند رفض التعاون مع الجهاز. ومن ثم فى ظل هذا اللغط الدائر حول دور جهاز حماية المنافسة والقانون رقم 3 لعام 2005 وضبط الأسعار بالسوق كان لا بد من توضيح حدود عمل جهاز حماية المنافسة، وقصور القانون الحالى رقم 3 لعام 2005 والتى ساهمت فى الحد من قدرة الجهاز على العمل بالسرعة والكفاءة المطلوبة. ونخلص من هذا العرض لعدة نتائج قد تساعد فى التصدى لارتفاعات الأسعار، وهى على النحو التالى: 1 بالفعل جهاز حماية المنافسة له دور فى رقابة وضبط الأسواق وفقا للقانون، إلا أنه ليس الجهاز الوحيد وإنما يعتبر دوره مكملا لعدد من الأجهزة الرقابية الأخرى، وهنا تبدو أهمية التنسيق بين هذه الأجهزة. 2 ليس كل ارتفاع للأسعار هو انعكاس لممارسة احتكارية، فقد يرجع بعضها إلى جشع وطمع التاجر الفرد بما يخرج عن سيطرة أجهزة المنافسة فى ظل صعوبة تحديد السعر العادل ومتابعة تطبيقه والالتزام به، كما قد يرجع البعض الآخر لعدم توافر المناخ الملائم للاستثمار والإنتاج ووجود العديد من القيود الفنية والإجرائية التى قد تحول دون التوسع فى الإنتاج بالكفاءة المطلوبة، وهذا ما يجب على الدولة بكل سياساتها التصدى له. 3 ارتفاعات الأسعار التى تترتب على الممارسات الاحتكارية والتى تقع تحت طائلة القانون جاءت على سبيل الحصر بالقانون، والتى تتطلب ضرورة العمل على إثباتها، وهنا تبدو ضرورة إعطاء الاهتمام بتعديل قانون المنافسة الحالى والعمل على منح الجهاز الصلاحيات والأدوات التى تؤهله لأداء دوره بالكفاءة والفاعلية المطلوبة. ومن بين هذه التعديلات الضرورية ضمان ووجوب الإعفاء الكامل للمبلغ، حتى يتسنى إثبات الاتفاقات بين التجار والمنتجين، وتغليظ العقوبات من أجل ردع هذه الممارسات الضارة بالمنافسة، فضلا عن أهمية تغليظ العقوبة فى حالات عدم تعاون المنتجين والشركات فى تقديم البيانات والمعلومات للجهاز، حتى يمكن توفير الأدلة والقرائن على الممارسات التى نص عليها القانون. 4 لا يغفل فى هذا المجال التأكيد على طبيعة القانون الجنائى المصرى والذى يشترط اليقين فى إثبات المخالفة، بما يضع عبئا شديدا على جهاز حماية المنافسة فى إثبات المخالفات، والتقدم بطلب للنيابة العامة لتحريك الدعوى بوجود مخالفة، حيث لا يقوم الجهاز بتوقيع المخالفة وإنما يترك الأمر لتحقيق النيابة والتى قد تنتهى إلى الإحالة للمحكمة الاقتصادية للنص على المخالفة. ومن ثم تطوير دور جهاز حماية المنافسة فى ضبط الأسواق إنما يتطلب بدوره تطوير ورفع كفاءة عمل المنظومة ككل بما فيها النيابة العامة والمحاكم الاقتصادية فى هذا المجال الحديث نسبيا. 5 أخيرا، بقى أن نشير إلى أنه نظرا لحداثة قانون حماية المنافسة المصرى فضلا عما تشهده السوق المصرية من اختلالات وقصور لا يمكن التغاضى عنه، جاء القانون فى المادة رقم (10) منه ليسمح بإمكانية اللجوء إلى التسعير الجبرى، وذلك استثناء من الأصل، متى استوفيت الشروط الأربعة التى حددتها اللائحة التنفيذية للقانون وهى: صدور قرار من مجلس الوزراء بتحديد السعر، وأن يتعلق القرار بمنتج أساسى، وأن يتم التسعير لفترة محددة، وأن يتم أخذ الرأى الاستشارى للجهاز مسبقا. إلا أنه يجب أن يبقى اللجوء إلى تطبيق المادة (10) المشار إليها على سبيل الاستثناء وفى ضوء الشروط التى حددتها اللائحة التنفيذية دون إفراط يهدد المنافسة، أو تفريط يهدر الأبعاد الاجتماعية مع الأخذ فى الاعتبار الصعوبات الفنية والعملية التى تحيط تطبيق هذه المادة، من حيث تحديد السعر العادل أو توفير آليات المتابعة والمراقبة للأسعار.