كتب ناثان براون، أستاذ العلوم السياسية والشئون الدولية فى جامعة جورج واشنطن، وباحث أول غير مقيم فى مؤسسة كارنيغى للسلام الدولى مقالا يتناول فيه معركة الإسلاميون المنتخَبون فى مصر مع القضاء. يرى الكاتب أن الإسلاميون المنتخَبون فى مصر يخوضون معركة مع القضاء تتأرجح بين المواجهة الكاملة والتسوية الحذرة. وثمة ما يبررّ المخاوف التى تراود الإسلاميين بشأن القضاء، لكن بما أنهم يُسيطرون على العملية السياسية فى البلاد الآن، فإن الخيار بين المواجهة والتسوية يقع على عاتقهم إلى حدٍّ كبير. وقد استخدم الإسلاميون والعديد من القضاة على السواء كل الأدوات المتاحة لهم فى معركتهم هذه، لكن إذا استمرّوا فى استعمالها بتهوّر كما فى الأشهر القليلة الماضية، فالخاسر الأكبر سيكون الانتقال الديمقراطى المضطرب الذى تشهده البلاد.
●●●
وهكذا، فإن الرئاسة المصرية التى وجدت على ما يبدو أن الجزء الأكبر من المعارضة المدنية إما متمسّك بمواقفه وإما غير قادر على ممارسة تأثير، تركّز طاقاتها السياسية فى شكل أساسى على ترجمة انتصاراتها الانتخابية إلى موقع أكثر رسوخا وصلابة فى أجهزة الدولة. يبدو حاليا أن الرئيس محمد مرسى توصّل إلى تسوية مؤقّتة قابلة للحياة مع الجيش، وأخرى أكثر اهتزازا مع الأقسام المختلفة لجهاز الأمن الداخلى. لكن بدلا من سلوك المسار نفسه فى التعامل مع القضاء، ربما يرى مرسى وحلفاؤه أن القضاة يشكّلون عائقا يجب تخطّيه عن طريق الإجراءات التنفيذية والتشريعات، وشىء من الترهيب.
ويرى براون أن الخطوة الأكثر جسارة فى هذا الإطار، والتى تمثّلت فى الإعلان الدستورى الصادر فى نوفمبر الماضى، قد أدّت إلى تصلّب فى المواقف لدى مختلف الأطراف. ففى السلك القضائى، تحوّلت المشاعر المختلفة حيال صعود الإسلاميين، والتى تراوحت من المعارضة الناشطة مرورا بالتوجس وصولا إلى التسوية، إلى نوع من المعركة المميتة. فسلوك الإسلاميين أكثر منه أيديولوجيتهم هو الذى أثار الشعور بالمرارة لدى عدد كبير من القضاة. فقد بدا أن القيادة المنتخبة الجديدة، وعبر إعادة صوغ الإطار القانونى والدستورى للبلاد، تُنتج من جديد سلطوية مبارك الفاسدة (وإن كانت أقل تصلّبا)، لا بل تعود إلى منظومة عبدالناصر الأكثر خضوعا إلى نسق صارم وموحَّد (والأقل قانونية إلى حدٍّ كبير).
لكن لا تزال المسألتان الخلافيتان الأهم تنطويان على طرق يمكن أن تؤدّى إلى التسوية، فأى من الطرفَين لم يحرق بعد الجسور التى تقود إلى تلك المسارات.
تدور المعركة الأولى والأكثر علنية حول قانون جديد لتنظيم القضاء، أى التشريع الأساسى الذى يضمن استقلال السلطة القضائية (أو يقضى عليه). المفارقة هى أن الجهود الآيلة إلى وضع قانون جديد تعود إلى نحو عقد تقريبا (مع وجود سوابق تعود إلى فترة أطول)، بقيادة قضاة إصلاحيين سعوا إلى التخلص من مخلّفات الأدوات السلطوية والتعدّيات من السلطة التنفيذية التى تراكمت فى شكل أساسى خلال الحقبة الناصرية. فى الأشهر التى تلت اندلاع انتفاضة 2011، اعتبر القضاة الإصلاحيون الوقت مناسبا لإعادة إحياء ذلك المجهود، إلا أن مساعيهم توقفت عندما حُلّ مجلس الشعب فى العام الماضى.
لكن عندما تبنّى مجلس الشورى، الذى يُسيطر عليه الإسلاميون، المشروع فجأة فى أبريل 2013، ثارت حفيظة القضاة فى موقف مفهوم، إذ اكتشفوا أن ادعاء مناصرة استقلال القضاء أصبح «أورويليا» جدا: كان القانون الذى اقترحه مجلس الشورى ليفرض على القضاة الأكبر سنا التقاعد، بما يؤدّى إلى «تطهير» القضاء تحت ستار انتزاع السيطرة عليه من قبضة القضاة المتقدّمين فى السن.
وأثارت هذه التطوّرات خوفا شديدا لدى القضاة الذين لم ينسوا المواجهتَين السابقتين مع الرئاسة فى العام 1954 ثم 1969، حيث أدّت المواجهة الأولى إلى تقويض المحاكم الإدارية التى كانت تمارس سلطتها بحزم، فى حين أسفرت المواجهة الثانية عن طرد أكثر من 200 من أعضاء الهيئات القضائية من مناصبهم فى حادثة لا يزال يُشار إليها الآن ب«مذبحة القضاء».
المعركة الثانية أكثر تعقيدا من الناحية القانونية، لكن تبعاتها ليست أخف وقعا، وتتمحور حول تعيين النائب العام. فالمنصب حسّاس كونه يشرف على كل المحاكمات الجنائية، ويُحدّد بالتالى الاتهامات التى يتم التحقيق فيها بحماسة وتلك التى يتم التغاضى عنها.
لكن عندما تحرّك الرئيس مرسى أخيرا ضد النائب العام وقام بتعيين طلعت عبدالله، جاءت خطوته هذه فى أجواء شديدة الاستقطاب، كما أنه لجأ إلى مجموعة جريئة من التدابير التى سعى من خلالها إلى تجاهل القوانين والإجراءات المعمول بها عبر تغيير النظام الدستورى الانتقالى ليتناسب مع أهدافه. وقد أفادت تلك الإجراءات من الحصانة التى يمنحها إياه دستور عام 2012 وتحول دون إمكانية تحدّيها، أو على الأقل هذا مابدت عليه الأمور إلى أن قامت هيئة قضائية فى محكمة الاستئناف فى القاهرة مكلّفة النظر فى النزاعات المتعلّقة بأعضاء السلك القضائى، بنقض قرار مرسى بإقالة محمد.
لكن محكمة الاستئناف، وعبر قيامها بذلك، استندت إلى نظرة واسعة جدا إلى «المبادئ فوق الدستورية» التى زعمت أن بإمكانها تفسيرها بحسب ما ترتئيه مناسبا. وهى لم تُلقِ بذلك شكوكا حول صلاحية مرسى فى إصدار الإعلان الدستورى فى نوفمبر الماضى وحسب، بل اتّبعت أيضا نمطا فى التحليل القانونى يلفت بجسارته أكثر بكثير منه بتماسكه. وفى الجوهر، اعتمدت المحكمة أسلوبا عشوائيا لا يختلف كثيرا عن ذاك الذى انتهجه مرسى، فقد سمحت لنفسها بأن تختار، من بين البنود والأحكام الدستورية المتعدّدة، الأجزاء التى تنطبق على هذه القضية تحديدا وبأن تتجاوز بقيّة نصوص الدستور.
ويضيف الكاتب، حتى الآن، لم يُطبَّق الحكم. وليس واضحا إذا كانت الرئاسة تتجاهله بسبب المنطق العشوائى للمحكمة، أم فقط لمجرد أنها ترغب فى إبقاء نائب عام مفيد فى منصبه. بيد أن تسلسل الأحداث عمّق أكثر فأكثر الشكوك التى يشعر بها السلك القضائى حيال مرسى، وهى مشاعر متبادلة إلى حد كبير.
●●●
وفى الختام، يرى الكاتب أن التسوية متاحة بسهولة، وتتمثّل فى السماح للنائب العام الحالى بترك منصبه، واختيار نائب عام جديد وفقا للإجراء الجديد الذى ينص عليه الدستور، حيث يقترح كبار القضاة فى مجلس القضاء الأعلى اسم مرشّح على الرئيس الذى يقوم عندئذٍ بتعيينه رسميا. إذا قبل مرسى بالتسويات المختلفة العمل على إعداد قانون القضاء الجديد بالتعاون مع أعضاء السلك القضائى، وتعيين مدّعٍ عام جديد من خلال مجلس القضاء الأعلى فسوف يواجه اعتراضات من داخل جماعة الإخوان المسلمين التى ستتّهمه بالاستسلام لخصومه. لكن غالب الظن أن قنوات التواصل المغلقة بين القضاء والمعارضة ستُفتَح من جديد، الأمر الذى من شأنه إفساح المجال أمام المصريين ليبدأوا بالخروج من العثرات الكثيرة التى يتخبّطون فيها.