أثارت ردود الفعل التى تلت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية العديد من مظاهر الاحتجاج والتساؤلات. فقد أوضح موسوى أنه «حدث تزوير كبير فى نتائج الاقتراع، وأن التهديدات لن تردعه عن حماية حقوق الشعب». ومن جانبه عبر كروبى عن نفس المعنى بعبارات مختلفة بقوله: «إن مافيا غيرت نتيجة الانتخابات وأن الحكومة الجديدة غير شرعية». وامتدت ردود الفعل على نطاق واسع إلى المستوى الشعبى فى تحد سافر للسلطة مما أدى إلى وقوع مصادمات دامية، واعتقال المئات، وما صاحبها من صيحات «الله أكبر» و«الموت للديكتاتور» التى ترددت من فوق الأسطح بكل ما تحمله من دلالات فى العقل الجمعى الإيرانى. وقد أقر مجلس صيانة الدستور، المشرف على سلامة العملية الانتخابية، بحدوث تجاوزات فى الأصوات فى خمسين دائرة انتخابية لأصوات المدرجين على جداولها، قدرها بثلاثة ملايين صوتا. إلا أن ما أثار الاستغراب قول المتحدث الرسمى باسم المجلس «أن ذلك لن يكون له تأثير مهم على النتيجة النهائية التى قضت بفوز أحمدى نجاد»، ثم جاءت إشارة المرشد الأعلى على خامنئى والمثيرة للتساؤل، فى خطابه يوم 19/6 إلى أن «أحمدى نجاد حصل على 24 مليون صوت، وأن آليات النظام لا تسمح فى بلدنا بحصول غش بفارق 11 مليون صوت. وهو الفارق فى الأصوات يبن نجاد وموسوى». فهل كان من المفترض حدوث حجم أكبر من هذا الاغتصاب لصناديق الاقتراع ليعتبر تزويرا. ولقد تباينت الآراء حول مدى تداعيات هذه التطورات على الجبهة الداخلية الإيرانية، وقبل الوصول إلى هذا التقييم يلاحظ ما يلى: 1 أن المتنافسين الأربعة الذين خاضوا هذه الانتخابات جاءوا بعد غربلة مجلس صيانة الدستور لأكثر من 400 مرشح، ووُصَف هؤلاء المتنافسون بأنهم من داخل عباءة النظام القائم، وليس هناك أبلغ من قول موسوى فى إحدى خطبه «إننا لسنا ضد نظامنا المقدس وهياكله القانونية». 2 أن هذه الانتخابات تمت فى ظل سيطرة ما يسمى بالجناح الأصولى على مفاصل السلطة على مدى الأربع سنوات الماضية، والتى تدخلت لدعم أحمدى نجاد بشكل مستتر تارة ومكشوف تارة أخرى. فضلا عن الدعم المباشر والعلنى من المرشد الأعلى له قبل موعد إجراء هذه الانتخابات بشهر بإيحاءاته عن مواصفات المرشح المطلوب فى خطابه الذى ألقاه يوم 12/5/2009، والمنطبقة على أحمدى نجاد، وهو أمر يخل بموقع المرشد الأعلى الحيادى المفترض كحكم على مسار العملية الانتخابية، إضافة لسلوكه الاستباقى بقيامه بتهنئة أحمدى نجاد فى وقت لم تكن فيه الأصوات قد أُحصيت فى جميع الدوائر. 3 تزامنت هذه الانتخابات مع تنام واضح لقوى اجتماعية من الأجيال الجديدة التى ولدت فى أعقاب الثورة، أو أولئك الذين كانوا فى سنوات العمر الأولى عند اندلاعها عام 1979. وتتمثل هذه القوى بشكل رئيسى فى الشباب والنساء، وهذه القوى لها أجندتها الخاصة، وهى المطالبة بمزيد من الانفتاح وحرية التعبير. وقوة هذه الشريحة تتمثل فى طموحاتها وأنها تمثل ثلثى الشعب الإيرانى، فضلا عن درجة تسييسها العالية وتأثيرها فى محيطها وجرأتها على التعبير عن مطالبها، والمطالب الشعبية. 4 إن جانبا مهما من السجالات الانتخابية بين المرشحين دار حول المسائل الداخلية، وبصفة خاصة حرية التعبير وأسلوب إدارة الاقتصاد وحالة الفساد السائدة، والتى امتدت إلى مقومات النظام نفسه، فضلا عن اتهام أحمدى نجاد بأنه أعطى القضايا الخارجية أولوية على حساب الوضع الداخلى واستحقاقاته. إضافة لتصريحاته الهوجاء التى استفادت منها إسرائيل. ويلاحظ أن النقاش حول هذه القضايا كان يتم فى الماضى بشكل منضبط، لكن ما حدث من منافسات فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة جاء متجاوزا للخطوط الحمراء ومعبرا بشكل صاخب عن حالة من الاحتقان السياسى الطويل المكبوت، ومس بشكل أو بآخر مرجعيات النظام القائم. فقد تم تبادل الاتهامات وكسر العظام وتجاوز الخطوط الحمراء بدرجة لم تشهدها إيران فى تاريخها الانتخابى. ولجأ أحمدى نجاد لاحتواء اتهامات خصومه بكل الوسائل، ووصلت إلى حد اتهام بعض الرموز المهمة (هاشمى رافسنجانى وابنه) والمؤيد لموسوى والممول لحملته، بالفساد المالى واستغلال الظروف للإثراء. والجدير بالإشارة أن رافسنجانى كانت له تعليقات ونقد بين الحين والآخر حول ولاية الفقيه وصلاحياته المطلقة، وأثارت مخاوف المرشد الأعلى. 5 أبرزت هذه التطورات إلى السطح انقساما واضحا بين أركان السلطة ونخبتها ومرجعياتها. ومن هنا ثارت مخاوف المرشد الأعلى على تأثير ذلك على الجبهة الداخلية، لاسيما أن المسألة قد تجاوزت موضوع الانتخابات ومست موقعه، بعد أن ثارت الانتقادات حول موقفه المنحاز لطرف على حساب طرف آخر. فلجأ إلى تحجيم هذه التطورات باستخدام القمع الواسع للمتظاهرين رغم ما يشكله ذلك من مساس بمقولة التفويض الشعبى للثورة الإسلامية. وإدراكا من المرشد لخطورة الموقف فضل تبنى تكتيكيا أسلوب احتواء أحد أهم عناصر المعارضة وهو رافسنجانى، حتى لا تتسع الشقوق فى أعمدة السلطة وتتزايد التوترات بين نخبها. لكنه لم ينجح تماما فى هذا المسعى. فقد كان لافتا للنظر مثلا غياب رئيس البرلمان على لاريجانى و105 نواب محافظ من أصل 290 نائبا، عن حضور الاستقبال الذى أقامه أحمدى نجاد فى المقر الرئاسى احتفالا بفوزه بولاية ثانية، أو تصريح رئيس بلدية طهران محمد باقر قاليباف، المقرب من خامنئى، «أن جزءا من الشعب يطرح تساؤلات حول الانتخابات، وهذا أمر لا يمكن تسويته بالقوة». وفى الواقع لقد استخدمت أجهزة السلطة عدة أساليب لقمع وردع المعارضين وإثارة ضوضاء سياسية حولهم، وذهبت إلى حد اتهامهم بالخيانة وأنهم مدعومون من الغرب، والحديث عن مؤامرة شريرة لزيادة الالتباس حول مواقف المعارضة، مستغلة صدور تصريحات قادة بعض دول الاتحاد الأوروبى التى أبدوا فيها قلقهم الزائد على الوضع الداخلى فى إيران، وهو فى الواقع حرص على الشعب الإيرانى مشكوك فى مصداقيته. فماذا فعل هؤلاء القادة حينما قامت إسرائيل وعلى مدى أكثر من 22 يوما بقصف وعمليات إبادة مخططة للفلسطينيين فى قطاع غزه؟ ولم يترك هذا الموقف المستجد لهؤلاء القادة مجالا للشك بأن هذه الغيرة على الشعب الإيرانى تصب فى خانة إسرائيل وترتبط فى الأساس بمزاعمها لما تسميه بالخطر الإيرانى، فانساقوا خلفه، فى وقت تمتلك فيه إسرائيل أكثر من 200 رأس نووى، وتمثل الخطر الحقيقى على أمن المنطقة. وفى تقديرنا أن المرشد الأعلى على خامنئى فاضل بين موقفين.. الأول: هو عدم المخاطرة بتغيير الحصان «المطيع» وهو ما زال فى السباق، لاسيما أن هنا ملفات تمس مصلحة الدولة (Rasion detat)، ما زالت مفتوحة النهايات وعرضة لكل الاحتمالات (كالملف النووى، والحوار مع الولاياتالمتحدة، والتهديدات الإسرائيلية... الخ)، أو الثانى: السماح بتغيير داخلى استجابة للضغوط المطالبة بإعادة الانتخابات والتأثير المحتمل لذلك ليس على الملفات المفتوحة فحسب، بل وعلى مجمل صلاحيات الولى نفسه (وهو الأهم)، فرجح الخيار الأول رغم ما فيه من تعسف فى استخدام سلطته. وجاء موقفه حاسما فى هذا الشأن عندما خاطب البرلمانيين يوم 24/6 بقوله «لن ترضخ المؤسسة ولا الأمة للضغوط مهما كان الثمن.. لأننا إذا فعلنا ذلك ستتعقد كل الأمور». وإذا كان الخطر الخارجى قد لعب دورا مؤثرا فى الماضى وسمح بتجميد الإصلاح باستيعاب التناقضات الداخلية، وتم توظيفه بشكل قوى فى حالة «الحرب العراقية الإيرانية»، فإن «الملف النووى الإيرانى» رغم ما حصل عليه من إجماع وطنى قد لا يصلح هذه المرة للقيام بنفس الدور. فاستثمار حالة العداء مع الولاياتالمتحدة أصبحت فى عهد أوباما ودعواته المتكررة للحوار، أكثر صعوبة وأقل قبولا داخل إيران. «فالملف النووى الإيرانى» على أهميته والتهديدات الخارجية المصاحبة له ليست بمستوى نفس التأثير التى كانت عليها المخاطر المباشرة الناجمة عن «الحرب العراقية الإيرانية»، ويصعب استخدامها بالتالى لكبح مطالبات التغيير، استجابة لنداءات الداخل وضغوطه. فلكل سياسة فترة صلاحية، خصوصا إذا ما تغير المناخ السياسى العام السائد داخل البلاد وعلى المستويين الدولى والإقليمى. ويبقى السؤال هل تستطيع الثورة الإيرانية تصحيح مسارها وتجديد قواها بعد قرابة ثلاثة عقود من قيامها؟.. فى الواقع إن خريطة السياسة الإيرانية فى غاية التعقيد، كما أن التنبؤ بمسار الثورة الإيرانية أمر تصعب الإجابة عنه بقدر من اليقين. فقد أعاد أحمدى نجاد فى فترة ولايته الأولى توجيه مسار «إيران الدولة» التى بدت بشائرها وإن كان بشكل متواضع فى عهد خاتمى، إلى «إيران الثورة» من جديد، رغم أنه كان من المنطقى أن تتجه إيران إلى مزيد من تفعيل منظمات المجتمع المدنى وحرية التعبير، وتقليص الطبيعة الثورية للنظام السياسى الحاكم بعد انتهاء مرحلة الزخم الثورى. ولكن المسار السياسى الإيرانى أخذ اتجاها مغايرا لتسلسل التطور الطبيعى لأنظمة الحكم، وكان ذلك تعبيرا عن شعور قادة النظام الإيرانى بالقلق من بوادر تأثير المد الإصلاحى على صلاحياتهم، إضافة لحجم التهديدات الخارجية غير العادية التى تعرض وما زال يتعرض لها هذا النظام، ففضلوا تجميد المسار الداخلى. وبصفة عامة فإن التغيير السياسى والجوهرى السلمى يعتبر ظاهرة نادرة فى التاريخ السياسى لإيران بصفة خاصة، وفى دول الشرق الأوسط بصفة عامة، وغالبا ما يأتى هذا التغيير بإرادة الحكام أو نتيجة الانتفاضات العنيفة والدموية. فالتيارات التى تُشكل جسم النظام الإيرانى هى التى تحمل لواء التغيير، أما القوى المحيطة بالنظام والتى تُشكل ما يسمى «بالمعارضين الأوفياء» أى المعارضة المستأنسة لن تستطع التأثير فى هذا التحول التاريخى بشىء ملموس، ولكن حينما تتطور هذه المعارضة وتمتد إلى أركان النظام وتمس مقوماته نصبح أمام وضع آخر يستحق وقفة وتأمل جديدين. وما أود قوله فى النهاية إن التطورات الراهنة ما زالت فى بداية تفاعلها، ومن السابق لأوانه اعتبار مسيرات الاحتجاج بوتيرتها الحالية مؤشرا على أن إيران أمام احتمال تغير جوهرى فى نظامها فى المدى القريب.