كشفت الأحداث المشتعلة التى شهدتها مصر فى الأسابيع الماضية حقيقة أساسية وهى أن رموز «النخبة» المصرية سواء فى المعارضة أو فى سدة الحكم ما هى إلا امتداد لسلطوية مبارك ونظامه، فالكل يتحدث باسم مصلحة الوطن وحماية الثورة ولكن بعقلية مبارك. الجميع يدعى امتلاك الحقيقة المطلقة والبصيرة النافذة وغيره لا يعلمون أو ربما خائنون. وتمثل هذه الثقافة السلطوية للنخبة أحد المعوقات الأساسية لعملية التحول الديموقراطى فى مصر بعد الثورة. ●●●
خاطبنا الرئيس كمبارك بتلميحاته عن أركان مؤامرة دون أن يفصح عن تفاصيلها بشفافية. وكأن الشعب الذى قام بثورة ضد حاكم مستبد بطريقة حازت على احترام العالم ورافعا لشعارات من ضمنها الحرية والكرامة الإنسانية لا يستحق التقدير من قبل أول رئيس مدنى منتخب فى تاريخ الممارسة السياسية المصرية من خلال مخاطبة عقله لا مشاعره، وإيضاح الحقائق له بدلا من استقطابه لدائرة نظرية المؤامرة، مع الاعتراف بأن احتمال المؤامرة وارد ولكنه فى حاجة إلى شواهد وحقائق ملموسة، وليس من خلال حديث مرسل. فقد أتى استخدام فزاعة «فلول النظام السابق» بنفس طريقة استخدام نظام مبارك لفزاعة الإسلاميين دون تقديم أدلة مادية تؤيد ذلك، والأخطر أنه أصبح مطاطا يمتد ليضم أى معارض يتظاهر ضد الرئيس. ظهرت سلطوية مبارك أيضا فى الخلط بين الشرعية والمشروعية. فقد اعتبر الرئيس أن الشرعية تضفى بالضرورة المشروعية على قراراته وبعض الأفعال التى يقوم بها مؤيدوه عندما قال عن شهداء الاتحادية إنهم ماتوا دفاعا عن الشرعية متناسيا أن الثورة قامت لإعلاء دولة القانون وأن للشرعية مؤسسات لا جماعات تحميها، وأن مثل هذه التصرفات تهدم مؤسسات الدولة بل فكرة الدولة ذاتها ولا تبنيها. كما مثل غياب الشفافية فيما يتعلق بأسباب اتخاذ القرارات والأهم قرارات إلغاء القرارات بجانب التخبط والاضطراب فى عملية صنع القرار واتخاذه، ميراثا مباركيا بامتياز وكأن الثورة قامت اعتراضا على فردية مبارك وحاشيته وليس اعتراضا على مبادئ الفردية وعدم الشفافية فى ذاتها.
●●●
لم يختلف الفكر السلطوى ذاته داخل تيار المعارضة والتى عكس تشدد مواقفها استبدادا من نوع آخر متخف وراء المظهر المتمدن والذى أصبح متلازما عند البعض مع التحضر والديمقراطية. فعندما تشترط المعارضة إسقاط الإعلان الدستورى وسحب مشروع الدستور وإعادة تشكيل التأسيسية قبل الحوار فهى بذلك نسفت فكرة الحوار أو بمعنى آخر قررت منتج الحوار قبل أن يبدأ. فلو وافقت الرئاسة على هذه الشروط، فلم الحاجة إذن للحوار؟ كما عمدت المعارضة أيضا من اليوم الأول للأزمة على الخلط بين الشرعية والمشروعية وبنت مواقفها على أن عدم مشروعية قرارات الرئيس وإصراره عليها تعنى فقدانه للشرعية. وهو حديث سلطوى بالدرجة الأولى لأنه يضمر أكثر الرغبة فى اسقاط رئيس منتخب بغض النظر عن طبيعة الوضع الذى أدى إلى انتخابه وليس إلى إعلاء القانون. كما لم تتورع بعض رموزها من الاستقواء بالخارج ودغدغة مشاعر الغرب، على الرغم من أن أحد مطالب الثورة كان يتمثل فى الغاء التبعية السياسية لمصر للغرب بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص. ويحضرنى فى هذا السياق خطاب رموز المعارضة فى إيران إبان الثورة الخضراء التى أعقبت الانتخابات الرئاسية فى 2009 2010، والتى تتشابه فى الكثير من السياق والاستراتيجيات مع التيار المدنى المعارض فى مصر. فقد حرصت رموز هذه الحركة على التأكيد منذ بدايتها على أن ما يحدث فى إيران هو شأن داخلى وليس للغرب أن يتدخل فيه. وبينما رأت هذه النخب فى حصار المحكمة الدستورية العليا غوغائية، اعتبرت، هذه النخب نفسها، حصار القصر الجمهورى وكتابة بذاءات على جدرانه عملا ثوريا، وفى الوقت الذى أدانت فيه حصار مدينة الإنتاج الإعلامى واعتبرته إرهابا لحرية الإعلام والتعبير، فإنها لم تبد أى إدانة لمحاولات إغلاق مجمع التحرير أو قطع طريق صلاح سالم والذى يعتبر من وجهة نظر الكثيرين تهديدا لمصالح عامة الشعب.
●●●
ولم تخرج بعض القوى الثورية الشبابية وليس كلها من عنق السلطوية فى التفكير، فعند فريق من الثوار، «من ليس معى فهو ضدى»، وبالرغم من تشابك الموقف وتعقده، إلا أن الحقيقة من وجهة نظر الثوار لا تقبل النقاش، ومن لا يراه فهو إما «عبد» أو «خروف»، أو حزب «كنبة». كما أن القوى الثورية التى هتفت لتطهير القضاء لعدم رضائها عن أحكام البراءة فى قضايا قتل المتظاهرين، وكانت أول من نال من هيبة القضاء، وقفت هذه المرة مدافعة عن ذات القضاء الذى تشكك فيه مع كل حكم صادر لا ترضى عنه. كما أن إدانتها لحرق مقار حزب الحرية والعدالة لم تكن بالقوة الكافية، ولم يخل فى بعض الأحيان من تبريرات مضمرة. بل إن الأمر وصل عند بعض النشطاء إلى وصف ذلك بالعمل الثورى، على الرغم من تأكيدهم، فى الوقت ذاته، أن المظاهرات سلمية، وهو الأمر الذى عكس تناقضا فى الخطاب بل التباسا فى المواقف. وبالرغم من الحديث عن الديمقراطية والسلمية إلا أن تقبل الخلاف جوهر الديمقراطية لا يبدو متأصلا عند بعض هذه التيارات بدلالة العنف اللفظى المتداول بصورة منتشرة بين النشطاء والذى أصبح بمثابة الثقافة الشبابية الجديدة، وكأن الوطنية والاستقلال والمعارضة صفات تقاس بمدى التطاول وليس بقوة الحجة. وكأن الفضاء الإلكترونى العام الذى استطاع أن يؤلف بين قلوب الكثير من الشباب على اختلاف توجهاتهم الفكرية والأيديولوجية قبل وأثناء الثورة، والذى لعب دورا ملموسا فى التعبئة والتنظيم إبان الثورة، أصبح ساحة للقتال اللفظى والاغتيال المعنوى بصورة لا تقل خطورة عن العنف الحادث فى شوارع المحروسة، بل وقد يكون فى بعض الأحيان أحد وسائل التحريض على مثل هذا العنف. قد نتفق جميعا على حب الوطن ولكننا أيضا نختلف فى الرؤية لكيفية تحقيقه للمصلحة، وهذه بالطبع ليست بخيانة أو عار ولكنها طبيعة الممارسة السياسية.
●●●
كلكم تتحدثون بلغة مبارك، وتفكرون بعقلية مبارك، فمتى ستخرج الثقافة السياسية للمصريين من عباءة النظام المباركى؟