انطلاق فعاليات المنتدى الخامس لاتحاد رؤساء الجامعات الروسية والعربية الأحد المقبل    الإعلان عن مسابقة تعيين جديدة بالنيابة الإدارية، وهذا موعد التقدم لها    محافظ كفر الشيخ يشهد توقيع بروتوكول تعاون مشترك مع وزارة الخارجية لإتاحة خدمات التصديقات داخل المحافظة| صور    تحرك في أسعار الذهب اليوم الخميس.. بكم عيار 21 الآن ؟    الإمارات تطلق مصنع متطور للمولدات الصديقة للبيئة ينضم إلى القطاع الصناعي في الشارقة    البورصة تسجل مستوى تاريخي جديد مقتربة من 41500 نقطة بختام الأسبوع    شريف زرد يكتب: تحديات.. صراع الأرض والهوية    بوتين يؤكد توسيع السيطرة الروسية نحو نوفوراسيا وخاركيف وأوديسا    في حالة قرار صلاح بالرحيل عن ليفربول.. ما هو الفريق المناسب ل مو؟    طبيب الأهلي يكشف تطورات إصابة كريم فؤاد    تحويلات مرورية لتنفيذ أعمال كوبري الأتوبيس الترددي بالقاهرة    غلق كلى لمخرج محور جمال عبد الناصر بالدائرى غدا لتركيب كوبرى    محافظ أسوان يبحث مع التأمين الصحي الشامل مشكلات تقديم الخدمات الطبية    العمل" تُوفر 10 وظائف للشباب في" الصناعات البلاستيكية الدقيقة بالجيزة    الداخلية تضبط شخصا يوزع أموالا على الناخبين بطهطا    رغم جدل البرومو.. الست يُثير إعجاب الجمهور والنقاد في العرض الأول بالمغرب    الوطنية للصحافة تكرم أخبار اليوم كأفضل تغطية صحفية لافتتاح المتحف المصرى الكبير    الاحتلال الإسرائيلي يعلن مقتل ياسر أبو شباب على يد مسلحين فى غزة    رئيس الوزراء يصدر 10 قرارات جديدة اليوم    «أخبار اليوم» تنعى شقيق الكاتب الصحفي إسلام عفيفي    رغم إصابته في أحداث 7 أكتوبر.. نتنياهو يدافع عن قرار تعيين سكرتيره العسكري رئيسا للموساد    الطقس غدا.. تغيرات مفاجئة وتحذير من شبورة كثيفة وأمطار ونشاط رياح وأتربة    لجان لفحص شكوى أهالي قرية بالشرقية من وجود تماسيح    أبو الغيط: جائزة التميز الحكومي رافعة أساسية للتطوير وتحسين جودة حياة المواطن العربي    في غياب الدوليين.. الأهلي يبدأ استعداداته لمواجهة إنبي بكأس العاصمة    القاهرة الإخبارية: انتظام التصويت بدائرة الرمل في الإسكندرية.. والشباب يتصدرون    اسمها الحقيقى إفراج.. ياسمين الخيام في ذكرى والدها: غيرت اسمي خوفا عليه "فيديو"    وفاة الشاعر والإذاعي فوزي خضر وتشييع جثمانه اليوم بعد صلاة العصر    إعلان نتائج بطولة الجمباز بدوري الجامعات والمعاهد العليا المصرية رقم 53    «الأوقاف»: تعديل القيمة الايجارية لأملاك الوقف    ترقب أمريكى لزيارة بوتين للهند.. توقعات باتفاقات دفاعية وتسهيل التجارة    الزمالك يخوض مبارياته في كأس عاصمة مصر على ستاد المقاولون العرب    غنام محمد على رادار الأهلي تمهيدا لرحيل ديانج في يناير    الليلة.. حفل افتتاح مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2025    هل بول القطط نجس؟ وحكم الصلاة فى المكان الملوث به.. الإفتاء تجيب    "تعليم القاهرة" تدعو الطلاب لضرورة الاستفادة من المنصة اليابانية    مباحثات مصرية - بريطانية لتعزيز الاستثمارات في مجال الرعاية الصحية    لماذا يرتفع ضغط الدم فى الصباح وكيفية التعامل معه؟    نقيب المعلمين يبحث آفاق التعاون مع اتحاد التعليم في إنجلترا    خسائر بالملايين| الحماية المدنية تسيطر على حريق بمعرض أجهزة كهربائية بالوراق    موعد صلاة الظهر..... مواقيت الصلاه اليوم الخميس 4ديسمبر 2025 فى المنيا    المعرض الدولى الرابع للصناعات الدفاعية ( إيديكس - 2025 ) يواصل إستمرار فعالياته وإستقبال الزائرين    محكمة جنح أول الإسماعيلية تؤجل نظر محاكمة والد المتهم بجريمة المنشار    مصر تقيم احتفالية كبرى لوزراء البيئة وممثلي 21 دولة من حوض البحر المتوسط    وزير الزراعة يدلي بصوته في جولة إعادة انتخابات مجلس النواب بدائرة الرمل    الحقيقة الكاملة حول واقعة وفاة لاعب الزهور| واتحاد السباحة يعلن تحمل المسئولية    الصحة: مباحثات مصرية عراقية لتعزيز التعاون في مبادرة الألف يوم الذهبية وتطوير الرعاية الأولية    «الأعلى للأمناء»: منهج البرمجة والذكاء الاصطناعي يجهز جيل المستقبل    رمضان 2026| سوسن بدر تتعاقد علي «توابع »ل ريهام حجاج    بيراميدز يخسر جهود زلاكة أمام بتروجت    اليوم الثاني للتصويت بالبحيرة.. إقبال لافت من الناخبين منذ فتح اللجان    استقرار أسعار الذهب اليوم الخميس.. والجنيه يسجل 45440 جنيهًا    هل وجود الكلب داخل المنزل يمنع دخول الملائكة؟.. دار الإفتاء تجيب    لو عندى نزلة برد أعمل إيه؟.. الصحة توضح خطوات التعامل والوقاية    اللهم إني أسألك عيش السعداء| دعاء الفجر    دولة التلاوة.. المتحدة والأوقاف    وزير الثقافة يُكرّم المخرج القدير خالد جلال في احتفالية كبرى بالمسرح القومي تقديرًا لإسهاماته في إثراء الحركة المسرحية المصرية    كأس إيطاليا – إنتر ونابولي وأتالانتا إلى ربع النهائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مراكب الوحل
نشر في الشروق الجديد يوم 29 - 11 - 2012

الأساطير والحكايات الخرافية والحكايات الشعبية، ليست أبدا مجرد حكايات، إنها ممتعة التسلية عندما نترك أنفسنا نبحر فى مياهها أو نمشى على ضفافها، لكنها فى الأعماق نوع من حكمة الشعوب والسنين، ورسائل مشفرة عكف كثيرون على فك رموزها، ولعل أفضلهم هو «إريك فروم» الذى حلل بنية الأساطير ومراميها بشكل بارع فى كتابه «اللغة المنسية»، لأنه وضع مفهوم «السُلطة» محورا رمزيا تدور حوله بقية رموز الأسطورة، فهو الصراع الجوهرى فى الاختيار بين القوة والحق. وقد كان ضمن أحلامى الأدبية التى أجهضتها أو أجَّلتها مشاغل الكدح فى الحياة فى فورة العمر، ثم الاشتباك مع هموم الوطن السياسية ككاتب بعد ذلك، أن «ألعب» إبداعيا مع الأساطير والحكايات الخرافية والشعبية بما يعيد تجديدها وتلاؤمها مع الشجون المعاصرة التى تخصنا، ولم يُتح لى أن أتفرغ لذلك أدبيا، فاكتفيت بأن ألامسه فى بعض ما كتبته للصحافة.

فعلت ذلك أكثر من مرة متقصدا رموز الحكم الساقط فى أوج تغولهم، وكانت مهزلة التوريث هدفا لقصفى لفرط ما تثيره من غضب وامتعاض ورفض، فشمَلتُ «حالة» وريث الغفلة بأكثر من مقال قصصى يستلهم إعادة تشكيل الأسطورة أو الحكاية الخرافية أو الشعبية، وكان ما يفور فى صدرى من الغضب يُنجز كثيرا لم أنشر منه إلا القليل، ومع انزياح مبارك ووريثه وما حولهما، ظننت أن ما لم أنشره قد فات أوانه، لكننى مع ما يحدث من تغولات الحكم الحالى، وجدت أن هناك ما يظل مثيرا للدهشة، لأن شهوة السلطة، بل فجعتها، استفحلت بسرعة خرقاء فى حكم الإخوان، ووجدْتُ أسطورة كنت قد عالجتها يمكن أن تكون صالحة لفهم ما نراه من الحالة السلطوية الإخوانية، مع تغيير شخوص الحكاية وإبقاء رمزية المواقع، وهى أسطورة إيطالية من مجموعة «أساطير البحيرات والأنهار» التى نشرها المركز القومى للترجمة، والتى سبق أن أشرت إليها فى معالجة سابقة نُشرت فى مواجهة الحكم السابق الساقط.

تحكى الأسطورة التى تحمل عنوان «بحيرة الحسرة»، أن هناك بحيرة لم تعد موجودة، لأنها اختفت منذ قرون. «كانت بحيرة صغيرة جميلة ترقد بين أحضان جبال مكسوة بالغابات. وكانت البلدة المجاورة للبحيرة لطيفة لدرجة أن أميرة مرت بها فوقعت فى حبها، وقررت ان تبنى فيها قصرا تعيش فيه مع ابنها حتى يعود والده من الحرب».

بالنسبة لطفل فى العاشرة من عمره، كانت الغابات الضخمة والمياه الهادئة جنة حقيقية. وبالطبع، طلب الصبى قاربا. ولأن أمه كانت لا تستطيع أن ترفض له طلبا، أمرت فى الحال ببناء زورق جميل جدا، وتعلم الطفل أن يقوده.

صياد عجوز، كان يأتى بالسمك للقصر، رأى الأميرة، فقال لها: « طفل وحده فوق مياه هذه البحيرة ، ليس هذا منتهى الحكمة، فالريح يحدث ان تهب فجأة، وإذا فوجئ الطفل بالعاصفة فهل تظنين أنه يمكنه العودة إلى الشاطئ؟»

أجابت الأميرة على الصياد قائلة: «ابنى أمير، والأمراء يستطيعون ان يفعلوا كل شىء لأنهم اقوى وأذكى من الجميع».

وذات صباح، كانت البحيرة مصقولة مثل مرآة، وركب الطفل القارب واندفع فى عرض البحيرة، وكانت أمه الأميرة تراقبه من نافذتها، وفكرت فى زوجها الغائب، وقالت لنفسها: «عندما يعود سيكون فخورا بابنه».

كان الطفل فى وسط البحيرة تقريبا، عندما أظلمت السماء فجأة، وأخذت الغابة تزمجر. صارت مياه البحيرة سوداء كالحبر، وارتفعت أمواج هائلة يعلوها الزبد، تندفع مثل حيوانات مذعورة من شاطئ لآخر.

أخذت الأميرة تصيح، طالبة النجدة فقفز الصياد العجوز إلى قاربه، وبذل كل ما فى وسعه لإنقاذ الصبى. لكن المطر اخذ يتساقط بغزارة إلى درجة أن الأميرة سرعان ما لم تعد ترى، لا قارب طفلها ولا قارب الرجل العجوز، فانتحبت، وصلَّت، وهاجت، وهاجمت كل من حولها ، وتضرعت إلى السماء، لكن غضب الرياح الآتية من ناحية الجبل لم يهدأ.

استمرت العاصفة لساعات. وعندما انتهى وابل المطر وعاد الهدوء، ظهرت البحيرة تحت الشمس الساطعة، ولم يعثروا إلا على بقايا زورقين حطمتهما الأمواج. عندئذ جمعت الأميرة كل الفلاحين والصيادين من المنطقة والجوار، ودفعت لهم لكى يعملوا بلا انقطاع فى حفر قناة تسمح بتفريغ البحيرة من مياهها.

وبين عشية وضحاها تم نزح المياه من البحيرة، غير أنهم لم يعثروا فى القاع، إلا على هيئة غامضة لرجل عجوز يضم بين ذراعيه هيئة طفل. وكان الكلس المتراكم فى قاع البحيرة قد صنع من الغريقين تمثالا واحدا بحواف مشوشة.

غادرت الأميرة، يائسة، قصرها، وراحت تهيم على وجهها فى الغابات. وحاول الناس مواساتها، دون جدوى. غير أن نظراتها سرعان ما جعلت الناس يفرون منها. وسرت شائعات تقول أن من ينظر إليها يغامر بأن يصير مجنونا. ولم تمكث البائسة عدة أشهر حتى ماتت مع دخول الشتاء، من البرد والجوع، وبالأخص من اليأس فى جوف الوادى العريض، فى قرارة ما كان من قبل يحيرة جميلة».

هنا انتهت الحكاية الإيطالية، لكننى أكملتها فحكيت أن أميرة أخرى قرأتها، وكان لديها ولد صغير تظن أنه أذكى وأقوى من الجميع، وتعده لكى يخلف أباه بعد حين، لكن الحكاية جعلتها ترتعب، خاصة وأميرها الصغير كان مصرا على الإبحار بقارب فى عرض النهر الكبير الذى يجرى تحت أقدام القصر.

كان الولد عنيدا، وكانت أمه لا تستطيع أن ترفض له طلبا، فأمرت أن يبنوا له قاربا لم ير أحد مثله خلال أسبوع واحد. وفى الليالى الستة لأيام هذا الأسبوع، جنَّدت آلاف الرعايا لحفر قنوات تُسرِّب معظم مياه النهر فى الصحراء والبحر.

وعندما أنزلوا القارب الرائع إلى الماء وفيه الأمير الصغير، لم تكن الأميرة خائفة، لأن النهر صار من الضحالة بحيث لو هبت الريح وقلبت زورق الابن، فإنه يستطيع أن ينجو من الغرق بمجرد أن يقف على قدميه. وفاتها أن النهر الذى أفرغته إلى هذه الدرجة المفزعة، لم يعد قادرا على رى الحقول والحدائق، ولا جعل المراكب تبحر فى مجراه، بل لم يعد يكفى حتى لإرواء عطش الناس ناهيك عن اغتسالهم.

صار النهر مجرى فقيرا ، محاطا بالحقول المقفرة والبساتين التى ماتت، وآلاف آلاف الجوعى والعطشى الذين لم تلمس المياه جلودهم لشهور طويلة. فقد النهر اسمه القديم «النهر العظيم» وصار عند الناس «نهر الحسرة». وصارت معضلة الأميرة الملتاعة، كيف تُخْرِج الأمير الصغير الموحول، فى زورقه الباذخ الذى تلطخ، من سبخة الطين والعفن، ودائرة الناقمين، والقتلة.

انتهى لعبى مع تلك الأسطورة التى عالجتها لأصف حالة سابقة، والتى أرجو أن تعيدوا قراءتها لتكتشفوا أن التاريخ يكاد يكرر نفسه بشكل ساخر، ومرير السخرية أحيانا، فقد «لعِبتُ» مع هذه الأسطورة لتكون الأميرة ممثلة لسيدة القصر الرئاسى المنقشعة، والأمير الصغير ممثلا لوريث الغفلة، والزورق الفاخر تمثيلا لجاه السلطة ونفوذها، أما النهر فهو حياة الأمة، والوحل ما انتهى إليه المغترون بالسلطة والمتسلطون بها. فاستبدِلوا الرموز بما يعادلها من عجرفة وتغوُّل ممثلى «الجماعة» فى «السلطة» وهم لم يكملوا بعد بضعة أشهر فى سُدَّتها الأمارة بالسوء، ثم احكموا.

إننى أنهى هذه المقالة صباح الثلاثاء لأتفرغ لمتابعة ما سيحدث ميدانيا فى مليونية «للثورة شعب يحميها»، متمنيا ألا ينتهى زورق الحكم بعد خطيئة الإعلان الرئاسى الاستبدادى المراوغ الأخير المشئوم، إلى أوحال نهر حاولوا تفريغه لينفرد طيف واحد محدود، بمقادير أمة كبيرة، لم تكن أبدا ولن تكون بإذن الله إلا أمة وسطا، قوتها فى قدرتها على التماسك بالتسامح والتعايش والتوافق واحترام بنيها لحقوق كل من فيها. يارب.

إضافة، فى صباح الأربعاء: عدت من ميدان التحرير فى الليلة الفائتة مبهورا برؤية طوفان بشرى من كل الطبقات والفئات لأكثر من مليون إنسان مصرى رافض ليس فقط للمرسوم الرئاسى المشئوم، بل لممارسات الإخوان المفتونين بالسلطة والمغترين بها والفاشلين فيها، وقد ملأ هذا الطوفان ميدان التحرير وفاض فى شوارع وسط البلد حتى الأطراف البعيدة، ثم أقبلت مسيرات بمئات الآلاف قادمة من شبرا ومصطفى محمود والعباسية تشكل بذاتها مليونية إضافية، وهذان المليونان من القاهرة وحدها، لم تأت بهم من الأقاليم والقرى والنجوع أتوبيسات التحشيد ولا امتثالات السمع والطاعة ولا مدد السلفيين. والمعنى أن الإخوان لا يشكلون أغلبية بأى حال، وعليهم أن يتواضعوا ويراجعوا أنفسهم، ويدركوا أن زورقهم الذى تحركه شهوة السلطة لا نُشدان الحق، قد دخل بهم وبمصر إلى سبخة الوحل فى شهور قليلة، وأنه ما عاد ممكنا خداع الناس، فلينتبهوا (خاصة الشباب منهم) إلى خداع النفس، فهذا هو الوحل الأعظم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.