تتشابه الملامح التقليدية لقهوة الموظفين بشارع خيرت فى السيدة زينب، وتحديدا بالقرب من ميدان لاظوغلى، مع ملامح روادها. من السابعة صباحا يعج المقهى بموظفى الدواوين الحكومية المحيطة، فمنذ أكثر من خمسين عاما اعتاد الحاج محمد السيد، صاحب القهوة السبعينى أن يبدأ عمله فى تمام الساعة الخامسة صباحا. يؤدى صلاة الفجر بالسيدة نفسية ثم يتجه إلى القهوة كى يشرف على نظافة المكان ويقوم بتسخين الماء وغلى الحليب وإعداد الشيشة والمعسل قبل موعد وصول زبائنه من الموظفين. للوهلة الأولى تشعر كأنك أمام شخصية المعلم زينهم السماحى صاحب المقهى الشهير فى مسلسل «ليالى الحليمة» لأسامة أنور عكاشة، فالرجل على بساطته يجمع بين كرم الضيافة والحس الوطنى والدم الحامى وبالتالى الغضب السريع أمام «الحال المايل»، على حد تعبيره.
هو شديد الارتباط بالمقهى الذى طالما اجتذب «ذوى الياقات البيضاء»، إذ يقع وسط وزارة العدل، ووزارة الداخلية، ووزارة الصحة، ومجلس الشعب، إلخ... لذا يستطيع عم محمد رصد التطورات التى طرأت على أحوال الموظفين ومزاجهم العام. ويصف ذلك قائلا: « المقهى واحد من أقدم مقاهى المنطقة فلدينا ترخيص من عام 1936، فنحن موجودون حتى قبل بعض الدواوين. لذا ارتبط بنا العديد من الموظفين لأننا كنا معهم منذ بداية تاريخهم المهني». عم محمد شديد التحفظ بالنسبة لاختيار زبائنه، فهو يسمح بالجلوس لأصحاب الوجوه المألوفة فقط لأنهم سيتصرفون بشكل لائق ولأنهم يعملون على بعد خطوات من المكان، بينما يرفض وجود بعض شباب الجيل الجديد. «منذ عدة أيام أراد بعض شباب الألتراس الجلوس هنا فقمت بطردهم. ما زلت أحتفظ بجزء من عنفوانى وأستطيع أن أرد من يجترئ على الرزالة».
يرتفع صوت القرآن الكريم فى قهوة الموظفين، فعم محمد لا يسمح للعاملين فى المقهى بأن يديروا الأغانى الصاخبة الجديدة، وإن كان قد يتخلى أحيانا عن النظام الصارم ويسمح بمشاهدة بعض المباريات الهامة.
هكذا تحتفظ قهوة «الكمال» بطابعها التقليدى: أربعة طاولات من الأرابيسك وحولها 40 كرسيا خشبيا، هذا بالإضافة إلى عدد من الشيش المنقوش عليها صور ملكى مصر فاروق وفؤاد. يرصد الحاج محمد تغير مزاج زبائنه، قائلا: «موظفو زمان، كان عندهم مزاج عالى، فقد كانوا لا يدخنون سوى النارجيلة التومباك. وهو نوع من الدخان الراقى جدا يصل سعره اليوم إلى 200 جنيه للكيلو. ما زلنا من المقاهى القليلة التى تقدم هذا النوع من التبغ الذى كان يطلبه الزبائن من كبار الموظفين فى الماضى والذين ما زالوا يترددون على المقهى بحكم العادة رغم بعد أماكن سكنهم». يتحرك أحمد، ابن الحاج محمد، برشاقة بين الطاولات. يضع «بيشة القهوة » وهى كنكة للقهوة وثلاثة فناجين صغيرة كما كان يطلق عليها موظفو زمان. يتأكد من جودة البن، فهو يعرف عن ظهر قلب طلب ومزاج الشلل المختلفة من موظفى وزارة الصحة والعدل وكذلك موظفو مجلس الشعب بل بعض نوابه.
يعلق محمود، الموظف بوزارة المالية، أنه اعتاد الافطار على القهوة قبل الثامنة صباحا: «تحويجة بن قهوة الموظفين لها خصوصيتها. فهى تظبط الدماغ قبل يوم عمل شاق»، صاحب المقهى لايزال يستجلب البن من محل مشهور بباب اللوق، بخلط البن الفاتح والغامق والوسط بنسب معينة. تتصاعد أبخرة النارجيلة وتختلط بفرقعة زهر الطاولة، يحتدم النقاش وسط مجموعة من الموظفين:» رغم أننا نسعى للهروب هنا من مشاحنات الوظيفة، لكن حديث العمل كثيرا ما يفرض نفسه، فنجد أنفسنا نتحدث رغما عنا عن حركة الترقيات ونحتسب العلاوات ونتابع آخر ما تردد فى الصحف خاصة التى تهتم بشئون الموظفين كجريدة الجمهورية». من طاولة لأخرى تتبدل الوجوه وإن بقيت الوظيفة هى القاسم المشترك بين رواد المكان. يعلق الأستاذ سيد، أحد رواد المقهى: «فئة الموظفين بعد الثورة، رغم ضعف رواتبها هم أفضل حالا من غيرهم لأنهم يتمتعون بقدر من الاستقرار، بينما كثير من الفئات الأخرى قد انقلب حالها». يلتقط خيط الحديث واحد من أصحاب المعاشات ليؤكد عن خبرة أن هكذا كان دوما حال الموظفين فى أعقاب الأزمات والحروب والثورات. ويتذكر: « أيام الأزمة الاقتصادية فى الثلاثينات كان والدى موظفا بديوان الحقانية أى وزارة العدل. كنت وقتها طفلا صغيرا يصحبنى معه إلى المقهى، فكنت أرى كيف تبدل حال أقاربنا ممن كانوا يمتهنون الأعمال الحرة وكيف أصبحوا يجلسون عاطلين عن العمل بينما حافظت أسرتى خلال الأزمة وبعد الحرب العالمية الثانية على ماء الوجه. وهو ما جعلنى منذ الصغر مصمما على أن أكون موظفا مثل أبى، لأننى أفضل الاستقرار عن الثراء «.
على طاولة أخرى قريبة، إعتاد مجموعة من موظفى المعاشات التردد يوميا على المكان، تماما كأيام الوظيفة.. وكأن الجميع يرفضون تغيير أى شىء من طقوس المقهى، ويرفض الحاج محمد بدوره فكرة الحد الأدنى لقيمة الطلب أو (minimum charge) التى أدخلتها بعض المقاهى بل يرى فيها نوعا من قلة الذوق. ويتساءل: « لماذا أفرض على رواد المكان أن يطلب شيئا بالإكراه؟. فى وقت الظهيرة كثيرا ما تجلس بعض الموظفات على المقهى فى انتظار أتوبيس الشغل، وليس من اللائق أن آخذ منها ثمن المقعد أو أجبرها على طلب مشروب؟ لا يتناسب ذلك مع أخلاقيات القهوجى الجدع! «. وعلى هذا يحرص مقهى الموظفين أن يظل سعر الشاى والقهوة فى متناول الموظف محدود الدخل، فكوب الشاى مثلا لا يتعدى ثمنه جنيها ونصف الجنيه، بينما فنجان القهوة لا يزيد عن 2 جنيه. كما يحرص صاحب المقهى على مرور الشخصيات التقليدية نفسها، كماسح الأحذية المتجول بصندوقه من شروق الشمس وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، فالروتين الصارم هو أحد أهم أسرار استمرارية المكان بتفاصيله ومفرداته.