خرجت المسودة الأولى من الدستور، كاشفة عن ملامح نظام رئاسى مكتمل الأركان، يحكم قبضة الرئيس على مؤسسات السلطة المختلفة، ويمنحه أحقية حل البرلمان وتعيين رئيس الحكومة، ووضع السياسات العامة لها، وتعيين قضاة المحكمة الدستورية، بصورة تخالف التصريحات المتكررة لحزب الحرية والعدالة فى الفترة الانتقالية عن تفضيلهم ل«النظام المختلط» فى الحكم. المسودة أثارت ردود أفعال قانونية وسياسية غاضبة، والبعض وجه اتهامات صريحة لجماعة الإخوان ب«السعى إلى مصالحها السياسية» باعتبار أن رئيس الجمهورية أحد أعضائها، وتساءل سياسيون: «كيف يقبل الإخوان مادة تعطى للرئيس سلطة تعيين رئيس الوزراء، رغم أن حزب الحرية والعدالة فى عهد حكومة الجنزورى كان يطالب بتشكيل الحكومة من حزب الأغلبية النيابية.
الانتقادات شملت عدة مواد، أبرزها المادتان 129 و145 اللتان تنظمان إجراءات حل مجلس النواب، حيث تضمنت المادة 129 نصوصا من شأنها تسليط سيف السلطة التنفيذية ممثلة فى الحكومة وليس رئيس الجمهورية فقط على المجلس التشريعى المنتخب، فى الوقت الذى أزالت فيه الجمعية التأسيسية نصوصا كانت تسلط رقابة المحكمة الدستورية العليا على قانون انتخاب المجالس التشريعية.
وتنص المادة المثيرة للجدل على الآتى: «لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب إلا عند الضرورة، ويكون ذلك بقرار مسبب بناء على طلب الحكومة وبعد أخذ رأى رئيسى مجلسى البرلمان، وبعد استفتاء الشعب على هذا الحل»، ثم تنظم فى سطورها التالية إجراءات الاستفتاء على الحل وعودة المجلس للانعقاد، وليس حول هذه السطور أى خلاف.
وفى المقابل أعطت المادة 145 من الدستور الحق لرئيس الجمهورية فى حل مجلس الشعب دون استفتاء عند إصرار المجلس على رفض برنامج الحكومة، ونصت المادة على الآتى: «يسمى رئيس الجمهورية رئيس الوزراء ويكلفه بتشكيل الحكومة خلال 30 يوما على الأكثر، وتتقدم الحكومة ببرنامجها إلى مجلس النواب خلال 30 يوما على الأكثر من تاريخ تشكيلها، فإذا رفض هذا البرنامج بأغلبية عدد أعضائه يعين رئيس الجمهورية رئيسا آخر للوزراء ويكلفه بتشكيل حكومة جديدة، تعرض برنامجها على مجلس النواب، فإذا رفض هذا البرنامج، يشكل رئيس الجمهورية الحكومة الجديدة بناء على اقتراح من مجلس النواب، فإن لم يتم ذلك خلال 30 يوما على الأكثر، يحل رئيس الجمهورية مجلس النواب».
من جانبه وصف المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، النص بأنه «غريب ومربك» ويعبر عما سماه «متاهة حقيقية»، وقال: «من الطبيعى أن ينتجه أشخاص عمرهم ما كتبوا سطرين فى قرار وزارى، ولا يتمتعون بعلم أو موهبة التشريع على الإطلاق». وحمل الجمل أعضاء التأسيسية المسئولية، قائلا: «هذه اللخبطة تتضح أيضا فى النص الخاص بإعلان الحرب، فهو يلزم الرئيس بأخذ موافقة مجلس الدفاع الوطنى ومجلس النواب، رغم أن مجلس النواب ممثل فى مجلس الدفاع الوطنى أصلا برئيسه، مما يدل على عدم وجود مرجعية دستورية محددة، ومعاناة واضعى النصوص من ارتباك فكرى كبير».
وفى السياق ذاته انتقد المستشار محمد عطية، وزير التنمية المحلية والشئون البرلمانية السابق، والرئيس الأسبق للجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع، نص المادة 129، قائلا: «النص يهدد استقرار الدولة ويجعل الحكومة ومجلس النواب فى حالة تربص دائم ببعضهما، ودون مبرر واقعى أو دستورى، لأنه لا توجد دولة فى العالم تجعل من حق الحكومة أن تطلب من الرئيس حل البرلمان».
وأوضح أن رئيس الجمهورية باعتباره الرئيس الأعلى للسلطة التنفيذية والحكم بين السلطات، فهو الوحيد المنوط به عرض أمر حل مجلس الشعب على المواطنين للاستفتاء الشعبى، ولا يجوز الاستناد فى ذلك إلى طلب الحكومة على الإطلاق، لأن منح الحكومة حق طلب حل البرلمان، سيجعلها تلجأ لهذه الصلاحية كلما شعرت بوجود نية أو اتجاه لدى مجلس النواب لسحب الثقة منها، مما يعرض الدولة لخطر عدم الاستقرار الدائم، بحسب عطية.
وأكد عطية أن نص المادة يتناقض تماما مع المادة 128، التى تلزم الحكومة بتقديم استقالتها عندما يسحب مجلس الشعب الثقة منها، متسائلا: «كيف تطلق السلطتان التنفيذية والتشريعية فى مواجهة بعضهما بهذا الشكل؟».
وانتقل إلى نقطة أخرى منتقدا النص على أخذ رأى رئيس مجلس النواب قبل حله، «لأنه سيكون صاحب مصلحة فى عدم الحل، والقاعدة الأصولية تحظر أخذ رأى المتضرر من القرار قبل اتخاذه، وبالتالى فإن هذا النص معيب بشكل كامل»، وفقا لرأى المستشار عطية.
من جانبه، أكد المستشار كمال اللمعى، الرئيس الأسبق لمحاكم القضاء الإدارى، أن تمرير المادة 129 بهذه الصورة سيؤدى لمشاكل عديدة، لأنها تنص على أكثر من إجراء متتابع بصورة معقدة ولا تحقق الغاية المطلوبة منها، ومنها فض الاشتباك بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، عندما يستحيل تعاملهما سويا.
وأشار إلى خطورة ما فعلته الجمعية التأسيسية من نقل مواد بعينها من دساتير دول أجنبية تختلف ظروفها السياسية والقانونية عن مصر، مؤكدا أن «النظام الرئاسى المختلط غير واضح تماما فى أذهان من وضعوا هذا النص» واستطرد: «أشعر من نصوص المسودة أن الإسلاميين وخاصة الإخوان يظنون أن الأغلبية البرلمانية ورئاسة الجمهورية ستظل معهم إلى الأبد، مع أن كل المؤشرات تؤكد استحالة استمرار الوضع الحالى».
وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس جمال زهران: «الجمعية التأسيسية فاقدة للشرعية السياسية، لأنها تعمل دون رضا شعبى كامل، كما عين رئيس الجمهورية 22 من أعضائها فى عدة مناصب، لدعم خيار الدستور الإخوانى»، وأضاف: «المسودة الأولى للدستور تكشف عن نظام رئاسى يصنع رئيسا فرعونا ولا يراعى التوازن بين السلطات، وكان الإخوان يرددون فى السابق أن مطلبهم الجمهورية البرلمانية، لكن بعد نجاحهم فى انتخابات الرئاسة، يحاولون الآن فرض النظام الرئاسى بما يتفق مع وجودهم السياسى».
ولفت زهران إلى وجود نحو 47 مادة تتعلق باختصاصات الرئيس، منها تعيين أعضاء المحكمة الدستورية بما تحمله من تغول على السلطة القضائية، وحقه فى حل مجلس الشعب، وهو ما يدخلنا مجددا فى دوامة إعادة انتاج الرئيس الفرعون، وتابع: «كان الوضع سيختلف لو لم يكن الرئيس إخوانيا، وهو ما يؤكد وجود مصلحة سياسية فى كتابة الدستور».
ورأى البرلمانى السابق علاء عبدالمنعم أن ربط حل البرلمان بطلب مسبب من رئيس الحكومة لرئيس الجمهورية، أمر يعكس ما سماه «خللا جسيما»، فرئيس الحكومة يعينه رئيس الجمهورية، بما يركز السلطات جميعها فى يد رئيس الجمهورية، وهذا يعيدنا لما كنا عليه فى السابق، بحسب النائب السابق.