الغالبية الغالبة من المذاهب المعتبرة توافقت على أن «جميع شئون الولاية العامة» أو موضوع الخلافة وما يتبعها هو مبحث من مباحث الفقه، وليس من مباحث العقائد، وإن كان موضوع الخلافة قد ذكر فى كتب العقائد فمن الواضح أنهم ذكروه للرد على من يرى أن الخلافة من العقائد ومعنى ذلك أنهم قد أصابوا الحق فى التفريق بين الإلهى والبشرى والعقائد شأن إلهى . أما الخلافة شأن بشرى لذلك نحاول مراجعة تعريف الخلافة عند الفقهاء لنرى هل نجح التعريف فى التعبير عما رأته الأمة من اعتبار الخلافة شأنا فقهيا وليس شأنا عقديا.. وأشهر تعريف لمشاهير الفقهاء الذين اهتموا بالفقه السياسى هو تعريف الخلافة بأنها «خلافة النبوة فى حراسة الدين وسياسة الدنيا». هكذا عرفها أبوالحسن المواردى أما التقتازانى فقد عرفها بقوله «الإمامة رياسة عامة فى أمر الدين والدنيا خلافة عن النبى (ص) لكن الإمام الإيجى يذكر أنها (خلافة الرسول فى إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) هؤلاء الثلاثة الكبار أصحاب المراجع التراثية قد أقحموا لفظ النبوة فى التعريف دون ضرورة فلا علاقة بين أى حاكم مسلم وبين الرسول (ص)، إلا علاقة اقتداء الحاكم بالنبى (ص) وذلك مثل علاقة سائر المسلمين برسول الله (ص) فلفظ النبوة فى هذا التعريف لا يفيد، وفوق ذلك فهو يحدث أضرارا بعيدة المدى.. إذ استناد الخلافة إلى النبوة يضفى على المنصب قداسة لا حد لها.
مما يدفع إلى تضخم الذات لدى الحاكم، فيبالغ فى حق طاعته بغير سبب، والأخطر من ذلك أن تعبير (خلافة)» تعبير شعائرى «يدفع الناس لإحاطة الحاكم بهالة من الهيبة الزائدة فلا يستطيع الناس مراجعته ومحاورته، وتصويب مساره، وأشد خطرا مما ذكرنا أن بعض الحديث النبوى قد أمر الناس بالصبر على هنات الحاكم فإذا اجتمع الأمر النبوى بالصبر مع قياس منصب الحاكم على منصب النبوة فالناس أمام «قدس الأقداس» و«الحكمة المطلقة» و«وكالة النبوة» وذلك يخلق مشروع مفوضية الهبة على الأرض.. والإسلام يتنزه عن تلك الكبائر والكوارث، وأسوتنا فى ذلك النبى (ص) فى معاملته للناس فى اعطائهم حق» القود «(القصاص) من ذاته الشريفة، وذلك ليقينه المطلق أنه ليس لأحد كائنا من كان أن يرهب أو يعنف إنسانا، ولا أن يحمى نفسه من القصاص والمعاملة بالمثل.. ولقد صحت الأخبار أن مواطنا اشتكى واليا لعمر فأمر عمر (رض) المواطن أن يقتص من الوالى، فاكتفى المواطن وتنازل عن حقه، فأقسم عمر أمام حجاج الموسم أنه سيمكن كل انسان من القصاص من الولاة، فقال عمرو بن العاص (رض): يا أمير المؤمنين هل على الوالى من بأس إذا رأى خللا من أحد فأصلح هذا الخلل؟، فأجاب عمر (رض): للوالى أن يصحح الخلل ويردع الخطأ، وليس له أن يرهق الناس وتلك سنة النبى (ص) الذى عرض نفسه للمعاملة بالمثل من الرجل الذى ادعى أن رسول الله (ص) قد أوجعه، كما ورد فى صحيح السنة
لذلك فأنا أرجح إخلاء تعريف الخلافة من أى لفظ يضفى على المنصب وشاغله قداسة أو هيبة زائدة وذلك لاعتبارين أحدهما: أن الحاكم يتسلم منصبه برغبة الشعب واختياره، كممثل للشعب وليس مندوبا عن الله (حاشى لله) أو رسوله، والاعتبار الآخر أن الشعب مكلف شرعا بمراقبة الحاكم أشد من مراقبة المأموم للإمام، وتلك الألفاظ تضخم الحاكم وتصيب الأمة بحالة من الخضوع لا مبرر لها.