كان الشرط الذى أفرزته الشورى التى أسسها عمر (رض) هو ما صاغه عبدالرحمن بن عوف (رض) شرطا من بندين مذكورين يحملان فى طيهما بندا ثالثا، فقد كان شرط بيعة الخلافة (1) الالتزام بالقرآن والسنة، (2) اتباع سيرة الشيخين (أبوبكر وعمر) أى النظام السياسى الذى أسسه أبوبكر ورفع قواعده عمر.
هذا هو الدستور الذى التزم به عثمان (رض) ورفضه على (رض) بوضوح وشفافية، إذ أعلن التزامه بالقرآن والسنة، أما مسيرة الشيخين فقد رأى على (رض) أنها اجتهاد منهما لا يلزمه، وهذا حق لكن جماهير العاصمة كانت متمسكة باستمرار نظام الشيخين، فلما قبل عثمان تمت بيعته والتزم 6 سنوات، وبعد ذلك تغير الاتجاه فظهر الرفض الشعبى ثم تحول الرفض إلى غضب والغضب إلى ثورة تجاوزت حدود المسألة والعزل وبلغت القتل.
2
وجاء على (رض) وهو عازم على عدم الالتزام بسياسات أبى بكر وعمر كما سبق أن أعلن ساعة الشورى بصراحة متناهية، وفضلا عن ذلك فالرجل يرى أساسا آخر لأحقيته فى الولاية، هذا الأساس يتمثل فى قرابته القريبة من رسول الله (ص) وزواجه بفاطمة (رض)، ورغم ان قرابته ومصاهرته للنبى شرف لا يدانيه شرف الا انه لا يعطيه ادنى حق فى ولايته امر الناس بل على العكس من ذلك فإن هذا الشرف نعتبره سببا لابتعاده عن الولاية وعدم التنافس عليها، فإن رسول الله (ص) قد حرص على عدم استعمال أقاربه فى ولايات عامة ولا وظائف دائمة وحينما أناب عنه فى الحج والصلاة تجنب بنى هاشم إعلاما وتعليما للناس بأن شئون الحكم وشئون النبوة لا يورثان.
3
هكذا تغير اتجاه الخلافة الذى اختاره الناس منذ أيام أبى بكر وها هو الاتجاه المخالف لا يستشعر خطورة ما حدث لعثمان ولا عاقبة انصراف الكبار فجانب كبير من الصحابة ترك المدينة وجانب آخر اعتزل الشأن العام وجانب ثالث أعلن معارضته لآراء على (رض) ولم يبق معه إلا قلة إذا قيست أمام الذين انصرفوا عنه.
ولهذا كانت «كارثة الجمل» بين فريق من الصحابة والتابعين تتقدمهم أم المؤمنين عائشة (رض) فى مواجهة مسلحة مع فريق آخر من الصحابة والتابعين يتقدمهم على (رض) مدافعا عما تصور أنه حق له أن يدير شئون الأمة دون شورى يرتضيها الناس. وهكذا فإن تغيير القواعد والسياسات المتوافق عليها قد أحدث كارثة فقتل عثمان (رض) وخطأ التسرع فى مبايعة على (رض) كذلك كارثة «حرب الجمل» فلما وضعت الحرب أوزارها تبين أن الانشقاق والتشرذم لم يقتصر على الرأى الفقهى (السياسة) وحسب، بل إن أصول الفكر وثوابت العمل والاعتقاد قد أصابها شر كثير فها نحن أمام شيعة يرون حق على فى الولاية والانفراد بالرأى وربما توريث المنصب، وأمام «معتزلة» بدأت تؤسس لنظرية مستجدة، وأمام «خوارج» تجاوزوا حدود «الاعتقاد والعمل» وأمام فريق رأى أن الأصل الذى يجب الحفاظ عليه هو الاستقرار الداخلى وعدم استعمال السلاح بين فرقاء الأمة ولو كان بسبب «إدراك الحق السياسى» وقد ساهم فى تصنيع وتضخيم هذا التيار عن غيره خبرة معاوية لأكثر من عشرين سنة ورضا الناس وهم الأساس فى الحكم عن سياساته وقد لاذ به جمع كبير.
4
ها هو الخليفة لا يكاد يخرج من «واقعة الجمل» إلا وتدفعه سياساته لمواجهة ثانية مع معاوية فيما عرف فى التاريخ «بموقعة صفين» وما ترتب عليها من تحكيم، وما انتهت إليه الأمور من انشقاق المسلمين وتشرذمهم. هكذا «فتجربة الخلافة» تجربة لم تتم فصولا راشدة، بل تخلف الرشد عن سياسات أكدت أن التجربة لم يحالفها التوفيق طويلا، وما أرى سببا لذلك الا لتقاعس الفقه عن تقعيد الحقوق والواجبات السياسية وإفراغها فى منظومة مؤسسية تحظى برضا المواطنين وتضمن متابعة الحكام ومساءلتهم ومحاكمتهم وتوقيع الجزاء عليهم وإذا تقاعس الفقه «تفرعنت» العشوائيات، وتغيرت الاتجاهات ووقع ما لا يحمد عقباه.