أدى الفقه الإسلامى دوره الشرعى، ودوره الحضارى العالمى بكفاءة منقطعة النظير، فقد اتخذ الفقه قواعده المتينة فى تأسيس العلاقات الدولية من محكم القرآن حيث : (لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ..)، 2- (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...) 3-وقوله تعالى (.....فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ....) 4- (جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا...)
وآيات القتال فى أصلها جاءت مشروطة بمعاملة الآخرين بالمثل:
هذا هو الفقه السائد لدى غالبية الأمة، ومع ذلك فأمانة البحث تفرض أن الاعتراف بوجود رأى فقهى آخر يرى غير ذلك، فهم يرون الجهاد مرادفا للقتال، وأن القتال فريضة تقوم بها الأمة لفرض أحد بدائل ثلاثة هى ( الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتل) وطبقا لتصورهم هذا فهم يرون أن «الحرب هى أساس العلاقة مع الآخر»، وأصحاب هذا الرأى قالوا به بسبب «تماهى الحدود عندهم بين الجهاد والحرب والقتال» كذلك بسبب قياسهم العلاقة بين المسلمين وبين كل شعوب العالم على علاقة المسلمين بمشركى العرب المحيطين بالكعبة الذين اعتدوا من بعد إبراهيم وإسماعيل (صلى الله عليه وسلم) على مركز التوحيد «الكعبة» ولوثوه بأصنامهم وأفعالهم المشينة، مع أن جميع من يعتد بإجماعهم قرروا أن حكم قتال مشركى العرب خاص بهم بل خاص بسكان جزيرة العرب المحيطين بالكعبة لا غير.
لكن تدبر القرآن وصحيح السنة ينتصر للشائع المشهور فى كتب الفقه من أن أساس العلاقة بين بلاد المسلمين وبلاد غيرهم هو «السلام»، وليس الحرب، وأهل الفقه بحكم تخصصهم العلمى يدركون جيدا كيف تحمل آيات القرآن المطلقة بغير تسبيب على الآيات المقيدة ظاهرة السبب. وقد يسأل سائل كيف نفهم قول الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ.......)
ونوضح الأمر، فأولا: إذا قال القرآن «المؤمنون أولياء» فيقصد علاقة الأمة المؤمنة بغيرها.. وليس علاقة فرد بفرد، كذلك فإن الموالاة ليست درجة واحدة، فهناك موالاة قلبية وهى الرضا والتعاطف القلبى مع عقيدتهم وهذا مرفوض، فلو تعاطف أحد مع عقيدة الآخر فيؤمن بها، وهناك موالاة الجوار : التى تفرض عقلا وشرعا نوعا من التوافق والتكافل فى سياسات الدفاع عن حدود الدول وحماية مواطنيها وتلك موالاة بالمثل وهذا مطلوب ومرغوب.
كذلك فإن حمل الدعوة الإسلامية وعرضها على الآخر فرض على من يعلم ويقدر فكيف يتم حمل الدعوة مع الحرب والنزاع؟
وهذا ليس مجرد فقه بل هو أصل شرعى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقد التقى الرسول ب«الغساسنة» المسيحيين فى «تبوك» ولما اكتشف أنهم مسالمون وأن الشرور التى تسببت فى خروجه إلى تبوك ليست منهم بل من «الروم» كذلك اقتنع الغساسنة بحسن جوار المسلمين فضلا عن صدقهم وقوتهم والتزامهم بالعهد وذلك عكس ما عاينوه من توريط «الروم» لهم ثم سرعة فرار الروم وغدرهم بالعهد وتركهم الغساسنة يواجهون مصيرهم مع المسلمين، لذلك تقول جميع كتب السيرة والتاريخ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد صالح أهل تبوك، وأقرهم فى بلادهم على ما يعبدون هم ومن معهم فى البر والبحر، فهم فى ذمة الله، وذمة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأن عليهم مائة دينار تدفع فى شهر رجب من كل عام... الخ، وهذه الجزية مفروضة عليهم جزاء حمايتهم من أى عدوان خارجى ومن أى قوة عالمية، فهذا الصلح يبين لنا ويوضح أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حينما قال عن جزيرة العرب: «لا يجتمع فيها دينان» لم يقصد منع أهل الكتاب من الإقامة فى الجزيرة العربية بل إن المقصود الواضح أنه (صلى الله عليه وسلم) يفرض ألا يجتمع فى الجزيرة قوتان سياسيتان، منعا للحروب ودعما للسلام، وإعادة الشىء إلى أصله الذى كان منذ زمن إبراهيم وإسماعيل (صلى الله عليه وسلم).....