الثورة هى أيضا، ثورة معنى: ثورة على المعنى الذى تبنيه السلطة وتسلّطه على الناس. وهى، فى هذا، لها حيلٌ وآليات كثيرة: أولها تحطيم ما لا تتحمّله أو تقبله من دلالات الظواهر والأشياء، سواء أقامتها المعرفة أم جاء بها الحسّ المشترك. هكذا، مثلا، تفقد «ديمقراطية» السلطة العربيّة كلّ مرجعيّة لها، فى الفكر والممارسة، لكى لا تكون غير ما يرى فيها «مانحُها». وماذا يرى فيها قامع فاسد، غير شعار مناسب لتغطية قمعه وفساده؟ وإذا كان لمفهوم المجتمع المدنى، فى الفكر والممارسة، مسارُ قرون فهو، عنده، «ناد»، له «أعضاؤه» و«أطيافه» الممتثلون، وغيرهم «خارجون» عنه. أما الشعب والمواطن، فى «أيها الشعب» و«أيها المواطنون» فكيف للمرء أن يحدّد معناهما، وهما يخرجان من أفواه تملؤها الجثث؟ أمثلة المعانى المهشّمة لا تحصى. تستنزف السلطة ما تتلقاه من معنى وتضخم ما تصنعه وتصدّره منه: يمكنها، مثلا، أن تجعل من تدشين ملعب غولف موضوع خطاب عن «التنمية الشاملة والمستدامة»، أو أن تنشر فى البلاد اللون البنفسجى، كما حدث فى تونس، ليصبح هذا اللون لونها ولون علم منصوب إلى جانب العلم الوطنى (الشاعر الكوبى رينالدو أريناس رأى أن الدكتاتورية لا تتحمّل الجمال لأنها قبيحة ولأن الجمال يخرج عن سلطتها). أكثر من ذلك: يمكنها أن تنشر دالا بلا مدلول، أن تشغل الناس بما تعلن عن «واقع» لا وجود له، وأن تعتبر من أراد التأكد من علاقة الداّلِ بمدلوله «مصطادا فى الماء العكر» أو ممّن «فى قلوبهم مرض». لا يهمّ إنْ بقى المعنى معلّقا (إيهاما بعمقه، لكى لا ينفضح)، أو إن تسيّب، عن قصد، معوّلا على اجتهاد الناس فى سبر غوره، وبافتراض أن المسئول، عندهم، لا يَلغو. تستغل السلطة ثقافة اللامعنى السائدة: ثقافة لا تقوم على إنتاج المعنى وإنما على استنزافه وتكراره وتسييبه، فى مجتمع لا تكاد تكون له لغة واحدة متماسكة. طبعا، يجد اللامعنى معناه فى التوظيف السياسى، وإجمالا فى انتشار اللادلالة، كما وضح ذلك كاسْتورياديس، بخصوص المجتمع الحديث. وإذا كان الإعلام من أبرز ما انعكس اللا معنى فيه (وقد دفعته الثورة إلى الاعتذار) فإن ما كان يخفّف من وطأته هو قلّة تصديقه. أما أبرز ما أُذل فيه المعنى فهو فضاء المعارف، الفضاءُ المجعول لإنتاجه، حين روّضه بعض أهله على تزييف حقائقه، فإذا بالمعارف تمتثل لسلطة الأمىّ وتدعو له بالتوفيق فى ظلمه. لقد كان صاحب السلطة متعاليا، بأميّته، إلى حد أنه لا يرى الحقائق والظواهر، تحته، إلاّ مقلوبة. لهذا يمدّه البعض بمعان مقلوبة ليثبتوا له أنه على حق. فى هذه الحالة، تنتفى إرادة المعرفة وأخلاقياتها، لانتفاء شجاعة الحقيقة، كما رأى ميشيل فوكو، تقريبا. وإذا كانت ردود الفعل الأولى قد انشغلت بكشف التواطؤ فإن الأصعب والأبعد هو أن تعود المعارف إلى فضائها، وخصوصا إلى «إنسانياتها». اتجهت الثورة، منذ لحظاتها الأولى، إلى امتلاك المعنى: إلى طرد المفروض واسترجاع المسلوب وصنع الممنوع. وليكون لها ذلك بدأت بإسكات من كانت لهم ملكية الكلام وسلطتُه، وبفسح الكلام لمن طال حرمانهم منه. هكذا امّحت وجوه كانت تملأ الشاشة وظهرت أخرى ليس لها بها عهدٌ، وجفّت ألسنة كانت تسيل فى الصحف، وأمطرت أخرى بما ملكت. أقوى اللحظات الأولى كانت فى «الشعب يريد اسقاط النظام»: لأول مرّة، فارقت الكلمات الأربع معانيها القديمة، المجمّدة، فى الخطاب الرسمى، منذ نصف قرن. الشعب كان دائما موجودا، ولكن خارج المجال السياسى: كان كائنا «توجده» السلطة، بلا نواة ولا حدود، لكى يكون علامة وجودها ومصبَّ سلطتها. اليوم تكثّف وتحرّك، تدفعه إرادة الحياة والفعل، فإذا هو قوّة فعلية، فيها ما يكفى للاقناع بأن مقولة «سلطة الشعب» القديمة لها أن تتجسّد، واقعا ملموسا، وأن تُسقط ما ليس منها. أسقطت رءوسا ضاعت فى البلدان والسجون، ولكنها كانت تعلم أن الرءوس ليست إلاّ أعالى النظام الذى «ينظّم» مجتمعا. هو نفسه، قد يطيح بها أو يستنسخها، حماية للقائم لا تغييرا. ما لا يبدو منه، ما يخفيه، هو الأكثر مقاومة واستمرارا. ما صورة النظام فى الرؤية الشعبيّة؟ ما حدوده، فى المطلب الشعبى، وراء «أجهزة الدولة»؟ هذا ما لا نعرفه الآن، على وجه التحديد، ولكننا نعرف أن قوة «الشعب يريد إسقاط النظام» وأمرُ «ارحلْ» سَريا، عربيا، بل بدأ يتلقاهما شباب فى أوروبا، وكأنّ «التخوم» العربيّة تصدّر إلى «المركز» ثوراتها، من دون عمد. لا يتجدّد المعنى، بالسرعة نفسها، فى المجالات كلّها. لقد بدت الحريات والقوانين وإجراءات السياسة من أكثر المجالات سرعة فى استنباط المعنى، فى حين أجّلت معانيها مجالاتُ الاجتماعى. وإذا كان يفيد ضرب المثال على سرعة ما فعلت الثورة بالذهن واللسان فأوضح الأمثلة وأغربها تحوّل خطاب الإعلام، فى بضع دقائق، إلى خطاب نقيض: عندما كان بن على يستعدّ أو يُعَدّ للهروب (مغرب يوم 14/1/2011) كانت التلفزة الرسمية تبثُّ برامج عن الإشاعة فى صدر الإسلام وعن البحار وأحيائها. وعندما ظهر «العاجل جدّا»، يعلن أن «حدثا هاما» سيعلَن عنه، كان الحديث عن البيئة، مسنودا، على الشاشة، بما تلقيه الحيوانات من فضلاتها. كان «المحاور» يتلقى، من حين لآخر، مكالمات تشكر الرئيس على «فهمتكم» وعلى «خطابه الرجولى الذى استعمل فيه الدارجة، تلبية لحاجات التونسيين» (هكذا)، وتشهّر بمن «يخرّبون لأنهم لا يستمعون إلى التلفزة» (هكذا، أيضا)، وتشهّر، تحديدا، بشغب الشعب وتخريبه، وبغياب الوعى لدى الشباب. ولقد كان«المحاور»، فى كل مرّة، ينهى المكالمة بعبارة «يعطيك الصَّحه»، وهى شكر وتهنئة بصواب القول. تأكد هروب بن على فإذا «الصواب» ينقلب خطأ وذنبا، وإذا بثعابين المعنى تغيّر، على عجل، جلودها: الحكم، والحكومة، والشعب والشغب، والمجتمع المدنى، والديمقراطية، والحقوق، والمطالب المشروعة، كل هذا وغيره انزاح معناه من خطاب إلى خطاب، فى ومضة شاشة. ولقد كان الوضع أكثر رأفة بالصحافة، إذ أُمهل انقلابها إلى الفجر.