كان المشهد بحق يثير حيرتى..! الثانية عشرة ظهرا.. المقهى الكبير مكتظ عن آخره برواد لا يبرحون طاولات الدومينو والولد والبنت! ..ولا مكان للشايب بالمقهى! ضجة تمتزج فيها رنات ضحكات مجلجلة بصيحات شجار غاضبة! تمضى الساعات الطويلة.. بينما هم لا يمضون! سواء كانت الثانية عشرة ظهرا، أو الثانية صباحا، أو الثامنة مساء.. قد تتبدل الوجوه، لكن المشهد كما هو لا يتغير! أسبوعان من شتاء عام 2004، جمعا نهاية يناير ببداية فبراير أثناء بطولة كأس الأمم الأفريقية فى تونس، قضيتهما مترددا بصورة شبه يومية على مقهى حى الجبل الأحمر الشعبى.. ذلك الحى الذى كانوا يقولون عنه إنه يحتاج إلى تأشيرة دخول!.. وكانوا يقولون لى: ما الذى ذهب بك إلى الجبل الأحمر؟ كنت اذهب إلى سوسة والمنستير وبنزرت وسيدى بوسعيد وحلق الوادى.. وأعود إليه.. كنت أنزل إليه يوميا من حى ميتوال فيل الراقى حيث الفندق منزوٍ فى أحد أركان ذلك المقهى.. أكتب تارة.. وأسرح مع من حولى تارات أخرى. ومهما قضيت من وقت، كنت أذهب قبل أن يذهبوا..! فى 17 ديسمبر الماضى عندما أضرم الشاب محمد البوعزيزى النار فى نفسه.. تذكرت كل الوجوه التى رأيتها على مقهى الجبل الأحمر.. وتذكرت وجه الصديق والزميل العزيز ماهر عبدالجليل وهو يجيب عن سؤال يقرأه فى عينى: «إنها البطالة.. جميعهم عاطلون»!! وجه البوعزيزى رأيته منذ سبع سنوات مرسوما على وجوه المئات من شباب تونس.. وأراه اليوم فى وجوه شبابنا الذى يحتل مقاعده بمقاهى العاطلين عن العمل، ليس فقط فى الجبل الأحمر.. بل والأصفر والأخضر.. تتعدد الألوان.. والجبل واحد!! «ابن على» فهم الآن.. هكذا زعم.. بعد فوات الأوان.. وكان ما كان! مازال الوقت فى أيدينا.. فى مصر والجزائر والمغرب والأردن وليبيا وغيرها من بلادنا التى يملأ شبابها الطرقات والحانات. اللعبة السياسية الكلاسيكية بشغل الشباب بقضايا ومهاترات رياضية واجتماعية وغيرها.. لم تعد تجدى اليوم..! شبابنا منغمس حتى رأسه فى الرياضة دون أن يمارسها.. قضايا مثل مرتضى وشوبير، مرتضى وعبدالغنى، ألتراس، أهلى وزمالك، تصريحات إبراهيم وحسام حسن، الملاسنات الإعلامية بين مقدمى البرامج والقنوات الفضائية.. كلها مثل قرص المخدر الذى نضعه تحت ألسنتنا.. سيأتى يوم ويزول مفعوله! الحقيقة نبقى مشدوهين أمام الأحداث.. نتساءل: كيف فازت قطر بتنظيم كأس العالم؟.. وكيف سقط «بن على» بهذه السهولة.، الإصلاح الحقيقى.. وليس إصلاح الشعارات.. ضرورة ملحة، العدالة الاجتماعية والاهتمام بقضايا الشباب، هما درع الحماية لأى مجتمع. من الممكن أن تكذب على بعض الناس كل الوقت، أو تكذب على كل الناس بعض الوقت.. لكنك لا يمكن أن تكذب على كل الناس كل الوقت! كيف يقول «ابن على» لم أكن أعلم.. وعائلته وأصهاره يسيطرون على شتى مناحى الحياة والمناصب؟!. حتى الرياضة.. وقعت فى قبضة عائلتى الرئيس وزوجته.. عماد الطرابلسى فى الأفريقى، وشقيقه حسام فى حلق الوادى، ومنتصر المحرجى (زوج سميرة الطرابلسى شقيقة زوجة الرئيس) فى مستقبل المرسى.. وقبلهم سليم شيبوب (زوج ابنة الرئيس) فى الترجى.. ولو عرجنا على الإعلام ستجد أسماء بلحسن الطرابلسى وسيرين زين العابدين ومحمد صخر (زوج ابنة الرئيس) وقد فرضوا سطوتهم على شركات الإنتاج التليفزيونية والإذاعات وشركات الاتصالات. كل هذا.. ويقول «ابن على»: «الآن فهمت»!! تونس كلها فى عينى، تبدو وكأنها مشهد من مقهى الجبل الأحمر..! اللاعبون الحقيقيون عاطلون.. فى حين أن اللعبة ذاتها بات أساسها الفساد والكذب والغش! فإذا حرق «الولد» نفسه.. فلا تظن «البنت» أنها سوف «تعيش» حتى ولو كانت طرابلسية.. وعلى «الشايب» أن يهرب! علينا أن نلعبها صح وبنزاهة وعدالة..! لأن «الشايب» قد يكسب أحيانا، لكنه سيسقط أمام «الولد» لا محالة..! حتى ولو مات الولد.. محروقا!!