شيخ الأزهر يهنئ الأمة الإسلامية بعيد الأضحى ويطالب المجتمع الدولي بوقف العدوان على غزة    هيئة الرعاية الصحية تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    بنك نكست يوقع بروتوكول تعاون مع الرياضة لتمكين الشباب اقتصاديا وتعزيز الشمول المالي    هل يصل سعر الدولار ل 60 جنيها بنهاية العام؟ رد حاسم لرئيس الوزراء    تفاصيل لقاء وزير الخارجية مع المبعوث الصيني للشرق الأوسط (صور)    لامين يامال يستعد لمواجهة فرنسا في دوري الأمم الأوروبية ب لوك جديد (فيديو)    ضبط طالبين بتهمة النصب قاما بنشر أسئلة امتحانات مزيفة على مواقع التواصل    طرح فيلم "سيكو سيكو" عبر منصة يانجو بلاي في عيد الأضحى    محافظ بني سويف يتفقد سير العمل في مركز نقل الدم بشرق النيل    جامعة مصر للمعلوماتية تتعاون مع جامعة لانكستر البريطانية لتعزيز الشراكات الأكاديمية العالمية    رئيس "الشيوخ" يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة عيد الأضحى    تقارير أولية من سوريا تفيد بحدوث انفجارات في مطار حماة العسكري    ما تفاصيل مشروع قرار مجلس الأمن المرتقب بشأن غزة؟    عراقجي لأمين عام حزب الله: إيران مهتمة بمساعدة لبنان    شيخ الأزهر يهنئ الأمة الإسلامية بعيد الأضحى ويطالب المجتمع الدولي بوقف غير مشروط للعدوان على غزة    «بن رمضان» في مواجهة توانسة الأهلي.. الأرقام تحذر معلول    إنتر ميلان يفتح قنوات الاتصال مع فابريجاس لتدريب الفريق    مجلس الوزراء: بث تجريبي للمنصة الإلكترونية لتراخيص الاستثمار    العثور على جثة بها آثار ذبح بالرقبة بفرشوط في قنا    ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي لمصر إلى 48.5 مليار دولار بنهاية مايو 2025    طرح البوستر الرسمي لفيلم "آخر راجل في العالم"    رسميًا إطلاق خدمات الجيل الخامس في مصر.. كل ما تريد معرفته عن السرعة والتحميل والباقات    محافظ المنيا يزور مديرية الصحة ويتابع سير العمل داخل الإدارات والأقسام    نجم الزمالك السابق يحذر من خماسي بيراميدز قبل نهائي الكأس    الزمالك يفسخ التعاقد مع مدافع الفريق رسمياً    بورتو منافس الأهلي يكشف عن زيه الاحتياطي فى مونديال الأندية.. فيديو    مجلس الوزراء يوافق على اتفاقية مع الاتحاد الدولي للاتصالات لتحقيق التنمية الرقمية    الإسكندرية ترفع حالة الطوارئ بشبكات الصرف الصحي استعدادًا لصلاة عيد الأضحى    ارتفاع تدريجي ل درجات الحرارة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس يوم عرفة (تفاصيل)    مد فترة التشطيبات.. مستند جديد يفجر مفاجأة في واقعة قصر ثقافة الطفل بالأقصر    توريد 500 ألف طن قمح في المنيا منذ بداية الموسم    زلازل وعواصف وجفاف.. هل تستغيث الأرض بفعل تغيرات المناخ؟    صلاح عبدالله يستعيد ذكرياته مع سميحة أيوب في مسرحية رابعة العدوية    «بيحبوا المغامرة».. 4 أبراج تستغل العيد في السفر    وزير الثقافة ل«الشروق»: لا غلق لقصور الثقافة.. وواقعة الأقصر أمام النيابة    لماذا رمى سعد الدين وهبة نص مسرحية كوبري الناموس بعد اعتراض سميحة أيوب؟ وما قصة مشهد الصمت الطويل؟    دعاء يوم التروية 2025.. أدعية مستحبة ومعلومات عن فضل اليوم الثامن من ذي الحجة    «قد يحسم أمام العراق».. حسابات تأهل منتخب الأردن مباشرة ل كأس العالم 2026    بيراميدز يجدد عقد المغربي وليد الكرتي موسمين    أول تحرك من «الطفولة والأمومة» بعد تداول فيديو لخطبة طفلين على «السوشيال»    رئيس هيئة النيابة الإدارية يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة عيد الأضحى المبارك    تزايد الضغط داخل مجلسي الكونجرس الأميركي لتصنيف جماعة الإخوان "إرهابية"    بالأسماء.. 58 مركزًا لإجراء فحوصات المقبلين على الزواج في عيد الأضحى    28 فرصة و12 معيارًا.. تفاصيل منظومة الحوافز الاستثمارية للقطاع الصحي    مسابقة لشغل 9354 وظيفة معلم مساعد مادة «اللغة الإنجليزية»    تحرير 911 مخالفة للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    في ذكرى ميلاده.. محمود عبد العزيز من بائع صحف إلى أحد عمالقة التمثيل    «جبران»: قانون العمل الجديد يرسخ ثقافة الحقوق والحريات النقابية    محافظ أسيوط يشارك أطفال معهد الأورام فرحتهم بقرب حلول عيد الأضحى    أنشطة ثقافية ومسرح وسينما فعاليات مجانية لوزارة الثقافة فى العيد    أيام الرحمة والمغفرة.. ننشر نص خطبة الجمعة المقبلة    «اللهم املأ أَيامنا فرحًا ونصرًا وعزة».. نص خطبة عيد الأَضحى المبارك 1446 ه    تكبيرات عيد الأضحى 2025.. تعرف على حكم التكبير فى العيدين بصيغة الصلاة على النبى    نقيب المحامين يوجّه بمتابعة التحقيقات في واقعة مقتل محامي كفر الشيخ    زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية على واردات الصلب والألمنيوم إلى 50% تدخل حيز التنفيذ    موعد إعلان نتيجة الصف الثالث الإعدادي 2025 في الجيزة ترم ثاني    كامل الوزير: انتقال زيزو للأهلي احتراف .. وهذا ما يحتاجه الزمالك في الوقت الحالي    «الإفتاء» تنشر صيغة دعاء الخروج من مكة والتوجه إلى منى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة الاثنين وأربعين عامًًا
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 10 - 2011

هاتفنى ابنى على غير توقع قائلا: هل علمت؟ فأجبت: بماذا؟ فذكر واقعة القبض على القذافى. سألته عما إذا كان الخبر مؤكدا فقال: أغلب الظن أنه كذلك. عاود الاتصال بعد دقائق قليلة ليخبرنى بمقتل القذافى، وكان من السهولة بمكان أن يستنتج المرء حقيقة ما وقع. شاهدت صور النهاية على شاشات التليفزيون لاحقا فتأكد استنتاجى. خرج الرجل من مخبئه غير مصدق، وكان عنف من يمسكون به واضحا، ثم حُمل إلى سيارة قيل إنها سيارة إسعاف حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بفعل إصابته وفقا للرواية الرسمية. ليس بمقدورنا التأكد من صحة هذه الرواية، ولكن حتى لو لم يكن قد قُتل أثناء «رحلة إسعافه» أو قبلها فقد أكد تتابع الأحداث الطريقة التى تعامل بها الثوار مع خصمهم اللدود، فقد نقل جثمانه إلى مصراتة حيث الثأر شديد بين أهلها وبينه لفرط ما تعرضوا له من أذى على أيدى «كتائبه»، وقيل إنه سُحل فى شوارعها، ولكن المؤكد أن جثمانه نصف العارى قد عُرض للراغبين فى رؤيته شماتة وتشفيا.

●●●

ما كان المرء يتمنى أن تكون هذه هى الطريقة التى يضع بها الثوار اللمسات الأخيرة فى انتصار ثورتهم. يستطيع الثوار بحق أن يقولوا: لقد فعل بنا أكثر مما فعلنا به، ولكن الثورة حالة نبيلة فيما أن الطغيان انحطاط إنسانى، ولا أعتقد أن ديننا السمح يقر أيا من هذه الأفعال (اتقوا المثلة ولو بالكلب العقور)، ولا أذكر فى تاريخ الرسول عليه الصلاة والسلام سلوكا عنيفا اتخذه أو أقره تجاه خصومه الذين فعلوا به ما نعلمه جميعا (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وأتحدث عن الرسول الكريم تحديدا لأن نفرا من حكام المسلمين لاحقا بعد عصر الخلافة الراشدة كانوا يعلقون رءوس خصومهم عند أبواب المدن أو فى ساحاتها الرئيسية حتى تنهشها الجوارح.

أخطأ الثوار فى تقديرى لأن انتقامهم كان لحظيا، أما اعتقال الطاغية ومحاكمته فكان من شأنهما أن يحققا للثورة ما هو أكثر بكثير من تلويث أيديهم بدماء طاغية، كذلك فقد أخطأوا لأن للقذافى قاعدته القبلية التى لا يمكن إسقاطها من حسابات السياسة الليبية، وكان من شأن محاكمته إثبات الجرائم التى ارتكبها بحق الشعب الليبى، بما يجعل الموقف تجاهه وطنيا شاملا لا تستبعد منه هذه القبيلة أو تلك، ويجنب الثورة قلاقل يمكن أن تحدث فى مناطق نفوذه القبلى.

لا يذكر المرء حالة مماثلة لمصير القذافى فى التاريخ العربى المعاصر إلا ما وقع فى أحداث الثورة العراقية ضد النظام الملكى فى 1958، حيث سُحل أفراد الأسرة المالكة وأعوانهم الرئيسيون فى شوارع بغداد، ثم وقع الانقلاب على الثورة فى 1963، وقُبض على عبدالكريم قاسم رجلها الأول ورئيس وزرائها ونُفذ فيه حكم فورى بالإعدام رميا بالرصاص فى دار الإذاعة ببغداد، وكان القائمون بهذا العمل سعداء به لدرجة أنهم أرسلوا فيلما يصور وقائعه إلى الرئيس عبدالناصر الذى كانت خصومته شديدة مع قاسم، فهالته بشاعة ما وقع، ومنع إذاعة الفيلم فى التليفزيون المصرى.

●●●

حكم القذافى ليبيا اثنين وأربعين عاما بالتمام والكمال. بدأ حكمه بانقلاب عسكرى على النظام الملكى فى 1969 مع صحبه، كان شابا وسيما تتدفق منه المشاعر الوطنية والقومية، ونجح فى تخليص ليبيا من القواعد العسكرية الأجنبية، ولأن انقلابه وقع بعد عامين من هزيمة1967 فقد كانت له دلالات استراتيجية واضحة، لكن المؤكد أنه لم يكن يملك مشروعا محددا لوطنه وأمته، فانشغل بوضع أسس لنظام حكم غريب خلع عليه وصف «الجماهيرية»، لكنه أحدث فوضى عارمة يطول شرح أبعادها فى المستويات القاعدية بينما ظلت السلطة مركزة فى يديه، وكان من شأن هذا أن يكون للرجل خصومه الذين عاملهم بأقصى درجات العنف فى غياب كامل للقانون، وسمعت من زملاء لى كانوا يعملون فى ليبيا عن فظائع مشينة ارتكبها بحق معارضيه، وكذلك عن غرائب لا تصدق فى الممارسة السياسية اليومية، ولقد بلغ عصفه بمعارضيه حد تعقبهم بالاغتيال فى الخارج، ووصفهم بالكلاب الضالة (تدنى وضعهم إبان الثورة إلى جرذان).

لا أنسى فى ذروة القطيعة المصرية العربية بسبب السلام المصرى الإسرائيلى أننى كنت أسير يوما فى أحد شوارع روما وقت الظهيرة، وكانت الطريق شبه خالية من المارة، لأنه كان يوم عطلة، ورأيت عن بعد أحد تلامذتى الليبيين المحببين إلى قلبى، والذى تبوأ فى بلده منصبا أكاديميا مرموقا بعد ذلك. كنا نسير فى اتجاهين متقابلين، وتهيأت للقاء حار فإذا به يتجاوزنى كأنه لا يرانى.

أدركت على الفور خوفه من أن يكون ملاحقا، وأن يُتهم بلقاء من أتى من بلد «الخيانة». أصابنى هم ثقيل، وبحركة لا إرادية توقفت بعد أن تجاوز كلانا الآخر بنحو عشرة أمتار، ونظرت خلفى فإذا بتلميذى العزيز قد فعل الأمر نفسه، ثم هرول نحوى مسلما بحرارة ومعتذرا بصدق قائلا إننى لابد أقدر الظروف، لكنه كان حريصا على إنهاء اللقاء فى ثوان معدودة. قدرت هواجسه وتساءلت بينى وبين نفسى: إلى هذا الحد يبلغ الطغيان؟

حفلت سياسته العربية دوما بالغرائب، وحتى عندما كانت له أفكاره المعقولة كتبنيه حل «الدولة الواحدة» فى فلسطين كان حريصا على أن يطعمها بما هو غريب، فأسماها دولة «إسراطين»، وعندما اهتم بالفضاء الأفريقى استبشرنا خيرا بمن سيحيى دور مصر الضائع فى أفريقيا، لكن هذا التوجه كان مدخله إلى التمرد على العروبة. آمن بمبدأ يشبه «الثورة العالمية الدائمة»، لكن فهمه لهذا كان تعيسا، فقد بدد ثروة الشعب الليبى ما بين عمليات إرهابية دفع ثمنها غاليا فيما بعد كحادثة لوكيربى وبين دعم ما تصور أنه حركات تحرير ضد الإمبريالية فى مشارق الأرض ومغاربها، فضلا عن تدخله الفج فى عدد من الدول العربية على رأسها السودان.

ولولا هذا الإنفاق العبثى لتحولت ليبيا إلى جنة على الأرض: شعب قليل العدد وثروة كبيرة لا ينقصها إلا المشروع الوطنى الجامع. حرص بعد غارات أمريكية استهدفت ليبيا واستهدفته شخصيا على أن يسمى ليبيا «الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى»، وكان ممثلوه فى كل مكان ينتابهم غضب عارم إذا لم يُعمل بهذا الاسم، وكنت أشعر دوما أن الأمة فى حالة كرب عظيم طالما بقى هذا الاسم.

●●●

لم يكن مسئولا وحده عما وقع، وإنما يُسأل عنه كذلك من سكتوا عنه اتقاء غضبه، ولا أنسى حين أعلن تخليه عن العروبة ميمما وجهه شطر أفريقيا تلك الوفود التى تقاطرت عليه فى خيمته تناشده أن يبقى «أمينا» للأمة، وكانت مفاجآتى صاعقة عندما رأيت بين هذه الوفود على شاشة التليفزيون الليبى وفدا مصريا رفيع المستوى يضم علماء وكتابا وسياسيين أخذ أعضاؤه يتوسلون إليه فى كلماتهم ألا يتخلى عن الأمة.

انتهى حكم القذافى أيا كانت الملاحظات على الطريقة التى أنهيت بها حياته، وآن لروح منصور الكيخيا وأرواح رفاقه الذين ساروا على الدرب ذاته أن تستريح، وأصبح الشعب الليبى يواجه عملية بناء مستقبله بنفسه، ومن حق هذا الشعب أن يتفاءل بمستقبله، لكن الحذر واجب من الاستحقاقات الداخلية والخارجية التى يتعين على الثوار تسويتها حتى لا تكون حجرا عثرة فى بناء المستقبل. صحيح أن إرادة الشعوب تصنع المستحيل، لكن للسطو على الثورات رجاله المتمرسين، ومن هنا وجب الحذر واستحقت اليقظة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.