مبادئ الديمقراطية لا تتجزأ، والديمقراطية الصحيحة لا تعرف الاستثناءات، هذا ما يؤكده نضال المصريين الطويل من أجل الديمقراطية، فتأتى واقعة «قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات فى الطرق العمومية»، والتى جرت أحداثها عام 1924 بين البرلمان المصرى من ناحية وسعد زغلول رئيس الوزراء ساعتها من ناحية أخرى لتؤكد هذا المبدأ، وتظل حاضرة لتبرهن أن التلاعب بالنظام الديمقراطى لتحقيق بعض المصالح الشخصية ينقلب على صاحبه فى النهاية. تبدأ الأحداث بعد إصدار أول دستور مصرى فى القرن العشرين، نتيجة ثورة 1919 العظيمة، والذى صدر فى 19 أبريل 1923، مكللا نضالا طويلا من أجل الدستور، واضعا الأساس لبناء النظام الديمقراطى، فقرر نص الدستور فى المادة 163 منه على أن «يعمل بهذا الدستور من تاريخ انعقاد البرلمان»، وصدر القانون المنظم لانتخابات البرلمان فى 30 أبريل 1923م، وبدأ الإعداد لانتخابات البرلمان، وكان المفروض أن تمتنع الحكومة عن إصدار القوانين الجديدة حتى يكتمل انتخاب البرلمان الجديد، ويدخل الدستور حيز التنفيذ، ليتولى البرلمان المنتخب ممارسة دوره فى التشريع، ولكن حكومة يحيى إبراهيم باشا أصدرت عددا من القوانين، والتى كانت مقيدة للحريات التى اقرها الدستور، مثل قانون الأحكام العرفية، وكذلك «قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات فى الطرق العمومية»، والذى أصدرته الوزارة فى 30 مايو 1923م ليحمل رقم 14 لسنة 1923م.
أثار إصدار قانون الاجتماعات الجديد عاصفة من الانتقادات بين القوى السياسية المختلفة، وهاجمه سعد زغلول والوفد بشدة، خصوصا لأن الوفد كان يعتمد بشكل أساسى على المظاهرات كوسيلة للنضال السياسى وحشد الأنصار، فقد وضع القانون العديد من القيود والعراقيل فى وجه الاجتماعات والمظاهرات، وجعل لوزارة الداخلية الحق فى منع الاجتماعات وفض المظاهرات، وجعل لزاما إبلاغها بموعدها حيث يمكن أن تعترض على عقدها، وغلظ العقوبة فى وجه المخالف من حبس وغرامة مالية، مما كان يضر بالحياة الديمقراطية بشكل عام، وبالوفد بشكل خاص.
انتخب مجلس النواب فى 12 يناير 1924، ومجلس الشيوخ فى 23 فبراير 1924م، وحاز الوفد على أغلبية كاسحة فى المجلسين، تعدت ال90% فى مجلس النواب، وأقل منها بقليل فى مجلس الشيوخ، وشكل الوفد الحكومة برئاسة سعد زغلول، وانعقدت أول جلسة للبرلمان يوم السبت 15 مارس عام 1924م، وكانت تضم المجلسين، ليكتمل عقد البرلمان المصرى الأول بعد ثورة 1919م، الذى عقد المصريون عليه آمالا كبرى من أجل إرساء دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة، التى دفع المصريون ثمنها غاليا بدماء شهدائهم الذكية خلال الثورة، فتقرر إحالة كافة القوانين التى صدرت قبل انعقاد البرلمان عليه ليقرها أو يلغيها، وذلك عملا بمبادئ الديمقراطية الصحيحة، وكان من ضمنها «قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات فى الطرق العمومية».
أحيل «قانون الاجتماعات» إلى لجنة الداخلية بمجلس النواب لتقدم تقرير عنه، فبحثته اللجنة بحثا مستفيضا ورأت وجوب إلغائه، وقدمت تقريرها إلى مجلس النواب بذلك، وعرض ذلك التقرير فى جلسة الأول من يوليو عام 1924م، ليشهد المجلس مناقشة حامية انتهت بقرار إلغاء القانون بإجماع المجلس، فكان القرار متماشيا مع مبادئ الديمقراطية السليمة، والمواقف المعلنة لحزب الوفد صاحب الأغلبية فى البرلمان، ولكن حكومة الوفد برئاسة سعد زغلول، والتى لم تحضر الجلسة، كان لها رأى آخر.
أتى قرار الإلغاء مفاجأة للوزارة، فذهب سعد بنفسه فى اليوم التالى لمجلس النواب، وخاطب المجلس وطالبه بالعدول عن قرار الإلغاء، وهو موقف مخالف للقواعد الديمقراطية الصحيحة، خصوصا أن سعد نفسه قد هاجم القانون أكثر من مرة، وبرر سعد موقفه بأن الحكومة لم تكن حاضرة فى الجلسة السابقة، وبأنها ستعرض قانونا آخر بدلا من إلغاء القانون السابق، وأصر سعد على موقفه أمام البرلمان، فعدل مجلس النواب على قراره ووافق على اقتراح سعد زغلول، وهو ما يعد خروجا صريحا على قواعد الديمقراطية السليمة، فقرار المجلس صدر بالإجماع، وكان لزاما أن يدافعوا عن قرارهم، وعن حق البرلمان الكامل فى التشريع بدون أى تدخل من السلطة التنفيذية. وقدمت حكومة سعد القانون الجديد بعد ذلك لمجلس الشيوخ، والذى أحاله لمجلس النواب، فأحاله بدوره للجنة الداخلية، ولكن الدورة البرلمانية انتهت فى 10 يوليو 1924، فلم يناقش القانون، وافتتح دور الانعقاد الثانى فى 12 نوفمبر 1924، ولم يتثن للبرلمان مناقشة القانون بسبب حله فى 24 ديسمبر من نفس العام، ومن سخرية القدر أن سعد زغلول والوفد كانوا هدفا لذلك القانون الذى رفضوا إلغاءه وهم فى السلطة.
استقالت حكومة سعد فى نوفمبر من نفس العام، وتولى زيور باشا الوزارة، فقام بالانقلاب على الحياة الدستورية، فحل البرلمان الأول فى 24 ديسمبر 1924، ثم حل البرلمان الثانى يوم 23 مارس 1925، فى نفس يوم انعقاده، ليكون أقصر برلمانات مصر، حيث استمر لمده 8 ساعات فقط، واستعملت الحكومة قانون الاجتماعات المشبوه فى تنكيلها بمعارضيها، ومحاربة القوى والوطنية المدافعة عن الديمقراطية، فقامت بمحاصر بيت سعد زغلول «بيت الأمة» بالجنود، وهاجم رجال البوليس النادى السعدى واقتحموه يوم 13 نوفمبر 1925م، لمنع الوفد من عقد اجتماع فى نفس اليوم، واعتدوا على المجتمعين بالقوة والضرب.
ويبقى القانون رقم 14 لسنة 1923م، المسمى «قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات فى الطرق العمومية»، ساريا حتى لحظة كتابة ذلك المقال بعد 90 سنة من تلك الواقعة، ومازال يستعمل فى محاربة الديمقراطية وقمع المعارضين، ويبقى شاهدا على أن المبادئ لا تتجزأ، وأن الديمقراطية الصحيحة لا تعرف الاستثناءات.