تتجلى درجة تحضر الأمم فى مدى التزامها بالقوانين، وتتأكد بمدى تجسيد تلك القوانين لمبادئ وقواعد الديمقراطية السليمة، فكان نضال المصريين الطويل من أجل بناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على احترام القانون، وقد مثل برلمان ثورة 1919م، والذى أنتخب عام 1924م بعد 5 سنوات من الثورة أحد أهم فصول ذلك النضال، فتأتى أزمة أعضاء مجلس الشيوخ المعينين فى عام 1924م، والتى نشبت بين سعد زغلول، الذى كان يشغل منصب رئيس وزراء مصر فى تلك اللحظة من ناحية، والملك فؤاد الأول من ناحية أخرى، كتأكيد على إصرار المصريين على الدفاع عن حقهم فى ديمقراطية حقيقية وسليمة.
نص دستور عام 1923م على أن البرلمان المصرى يتكون من مجلسين، مجلس الشيوخ ومجلس النواب، فكان نص المادة 74 منه «يؤلف مجلس الشيوخ من عدد من الأعضاء يعين الملك خمسيهم وينتخب الثلاثة أخماس الباقين بالاقتراع العام على مقتضى أحكام قانون الانتخاب»، ونصت المادة 82 منه على أن «يؤلف مجلس النواب من أعضاء منتخبين بالاقتراع العام على مقتضى أحكام قانون الانتخاب».
وبناء عليه جرت انتخابات مجلس النواب أولا فى 12 يناير 1924م، وتمت بنزاهة يشهد لها، لدرجة أن يحيى إبراهيم باشا رئيس الوزراء الذى جرت الانتخابات تحت إشراف وزارته سقط فى الانتخابات فى دائرته الانتخابية «منيا القمح» وفاز عليه مرشح الوفد، مما يشهد بنزاهة الرجل، وأنتجت الانتخابات أغلبية ساحقة للوفد، إذ حصل على أكثر من 90% من مقاعد المجلس البالغ عددها 214 مقعدا، وبناء عليه كلف الملك فؤاد الأول سعد زغلول بالوزارة يوم 28 يناير 1924م بصفته رئيس حزب الوفد الذى حصد أغلبية مقاعد البرلمان، فقبل سعد فى نفس اليوم، وبقى انتخاب مجلس الشيوخ.
جرت انتخابات الشيوخ فى ظل حكومة الوفد برئاسة سعد يوم 23 فبراير 1924م على ثلاثة أخماس مقاعد المجلس، كما هو محدد فى الدستور وقانون الانتخاب، والذى حدد عدد أعضاء المجلس ب 119 عضوا، ينتخب 71 عضوا ويعين ال 48 عضوا الباقين، وحصل الوفد على الأغلبية الساحقة مثلما حدث فى مجلس النواب، وبقى تعيين الشيوخ ال 48 كما ينص الدستور.
تمسك الملك فؤاد بما اعتبره حقه الدستورى فى تعيين خمسى الشيوخ، بينما أصر سعد والوفد على أن الملك يمارس اختصاصاته عن طريق وزرائه وليس بشخصه، واستشهد بالمادة 48 من الدستور والتى تنص على «الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه»، كذلك أن الوزارة هى المسئولة عن أعمال الدولة طبقا للمادة 57 من الدستور أيضا، والتى تنص على «مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة»، والمادة 60 والتى تنص «توقيعات الملك فى شئون الدولة يجب لنفاذها أن يوقع عليها رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصون»، والمادة 62 منه وتنص «أوامر الملك شفهية أو كتابية لا تخلى الوزراء من المسئولية بحال»، فاعتبر سعد أن الوزارة هى المسئولة عن أعمال الدولة ومنها تعيين الشيوخ، واعتبر ذلك تأكيدا لسلطة الدستور، ولمبدأ أن الملك يملك ولا يحكم.
ولكن الملك فؤاد الذى اعتبر تلك المعركة آخر فرصة له ليمارس بعض السلطات بنفسه، فقد رفض حجج سعد، وأصر على تعيين الشيوخ بنفسه، وإزاء إصرار الرجلين كل منهما على صحة موقفه، وافقا على تحكيم طرف ثالث، واتفقا على أن يكون ذلك الشخص هو البارون ڤان دن بوش النائب العام لدى المحاكم المختلطة ساعتها، وكان بلجيكى الجنسية، وكان سبب اختياره أن الدستور المصرى كان مأخوذا عن الدستور البلجيكى، فتم استدعاؤه إلى قصر عابدين، وعرضوا عليه المسألة، وطلبوا رأيه كحكم بينهم، فأصدر حكمة كالآتى:
«إن عدم مسئولية الملك يعتبر أساسا لهذا النظام الذى يقضى بأن الملك لا يتولى سلطته إلا بواسطة وزرائه، وهو مبدأ لا يحتمل أى استثناء من الوجهة القانونية، بل يمتد إلى جميع أعمال الملك، فإذا استثنى عمل واحد فإن هذا الاستثناء يصيب النظام الدستورى فى روحه وأساسه، لذلك أرى إذن أن تعيين أعضاء مجلس الشيوخ يجب أن يكون بناء على ما يعرضه مجلس الوزراء».
فقبل الملك فؤاد نتيجة التحكيم مجبرا، وصدر المرسوم الملكى بتعيين الشيوخ ال 48 الذين اقترحت أسماءهم وزارة سعد، ومثل ذلك الحكم انتصارا لمبادئ الديمقراطية الصحيحة، فالملك يملك ولا يحكم، والوزارة المشكلة من حزب الأغلبية فى البرلمان الذى انتخبه الشعب هى التى تمارس السلطة التنفيذية للدولة.
وكان المفروض أن تنتهى المسألة بهذا التحكيم، ولكن الملك فؤاد الأول ومن بعده ابنه الملك فاروق، أصروا على إثارتها أكثر من مرة، وكان إصرار فؤاد على الحكم بنفسه، وتدخل الإنجليز لضمان حماية مصالحهم فى مواجهة القوى الوطنية، سببا فى تعثر مسيرة الديمقراطية فى مصر أكثر من مرة، فكان سقوط وزارة سعد فى نوفمبر من نفس العام، وحل مجلس النواب بعدها بشهر فى 24 ديسمبر، مما مثل ضربة للديمقراطية، ولكن نضال المصريين استمر من أجل حياة ديمقراطية سليمة فى ظل دستور حقيقى يحمى حقوقهم، وتبقى المعركة مستمرة بعد 90 سنة من تلك الحادثة، ويبقى نضال المصريين من أجل ديمقراطية سليمة وحقيقية مستمر.