يبدو أن قدر مصر أن تعانى، وأن تظل تناضل من أجل الديمقراطية والحرية، وتدفع من دماء أبنائها الكثير، هذا ما يحكيه تاريخها الحاضر دائما. شهد عام 1924 حدثين متناقضين فى التاريخ المصرى، ففى أوله ولد النظام الدستورى الديمقراطى، فانتخب البرلمان المصرى الأول بغرفتيه، النواب فى 12 يناير، والشيوخ فى 23 فبراير، وحصل الوفد على الأغلبية، فأجبر الملك فؤاد على تكليف سعد زغلول باشا زعيم حزب الوفد بالوزارة فى 28 يناير، وبدأت مصر أولى خطواتها فى طريق الديمقراطية، ولكن فى آخره، تلقت الديمقراطية والحياة الدستورية ضربة قاضية، فاستقالت وزارة سعد فى 24 نوفمبر 1924، وحل البرلمان فى 24 ديسمبر، فيما عرف بالانقلاب الدستورى الأول.
بدأت الأحداث بعد فشل المفاوضات بين سعد زغلول ورمزى ماكدونالد رئيس وزراء بريطانيا فى 20 أكتوبر 1924، فقد كان الإنجليز يطمحون إلى انتزاع توقيع سعد كممثل شرعى للأمة على اتفاقية تحسم المسألة المصرية بشكل نهائى، ثم أجريت الانتخابات فى بريطانيا آخر الشهر، وسقط حزب العمال، ونجح حزب المحافظين الذى كان معروفا بمعارضته وجود وزارة شعبية فى مصر، فتحول الإنجليز من موقف المهادنة إلى العداء مع سعد زغلول، ساعتها أدرك الملك فؤاد أن الفرصة سانحة لدعم الإنجليز له ضد النظام الدستورى.
لم يكن قبول الملك فؤاد بالدستور، وتنازله عن صلاحياته لصالح نظام ديمقراطى، يملك فيه ولا يحكم، إلا قبول المضطر، وظل يتحين اللحظة للانقضاض على النظام، وكان تغيير موقف الإنجليز يمثل تلك اللحظة.
فى أول نوفمبر تفجرت أزمة فى صفوف الأزهريين ضد وزارة سعد زغلول، حيث اعتبروا أن الحكومة ترفض تلبية مطالبهم فى إصلاح أوضاعهم، وفجأة تفاقمت الأزمة، فأضربوا عن الدروس، وأضرب طلاب المعاهد الدينية فى الإسكندرية وطنطا وأسيوط، وخرج المضربون فى القاهرة بمظاهرة كبيرة جابت الشوارع، وأخذت تنادى «لا رئيس إلا الملك»، وقد كان نداؤهم من قبل «لا رئيس إلا سعد»، فبدأت أبعاد المؤامرة تتضح.
ثم بدأ الملك فى تحدى الدستور والانقلاب عليه، فقام فى 8 نوفمبر بتعيين حسين نشأت باشا وكيلا للديوان الملكى ورئيسا له بالنيابة بدون الرجوع للوزارة كما ينص الدستور، وقد كان معروفا بعدائه للوفد، كما أنعم بأوسمة ونياشين على بعض الضباط الذين شاركوا فى قمع مظاهرات مؤيدة لمصر فى السودان قبل ذلك، بدون علم الوزارة أيضا، ثم استقال توفيق نسيم باشا من الوزارة بإيعاز من القصر، فعارض سعد زغلول تصرفات الملك غير الدستورية، وتجاهله للوزارة الممثلة للشعب، وأصر على الاستقالة.
افتتح دور الانعقاد الثانى للبرلمان يوم الأربعاء 12 نوفمبر 1924 وبوادر الأزمة تلوح فى الأفق، قدم سعد استقالته للملك فى 15 نوفمبر، ثم التجأ للبرلمان وأبلغه قراره، وعلله بأسباب صحية، ولكن البرلمان رفض الاستقالة، وأعلن تجديد الثقة فى الحكومة، وتوجه وفد برلمانى إلى الملك، فأظهر الملك رفضه للاستقالة، وبعد مفاوضات وضغط، قبل الملك شروط سعد بالالتزام بالدستور، والرجوع دائما للوزارة، فعدل سعد عن الاستقالة يوم 17 نوفمبر، وكان المفروض أن تسير الأمور بسلاسة بعد ذلك، ولكن فى 19 نوفمبر، أى بعد رجوع سعد عن الاستقالة بيومين، اغتيل السير لى ستاك باشا سردار الجيش المصرى وحاكم السودان العام.
استغل الإنجليز الحادثة لأقصى درجة، فأصدروا إنذارهم الشهير للحكومة المصرية يوم 22 نوفمبر 1924، وكان قبوله يعنى تسليم مصر التام، فما كان من سعد والبرلمان إلا أن اتخذوا الموقف الوطنى الصحيح، ورفضوا المطالب، وعرض سعد ترضية الانجليز بما تقتضيه القوانين والأعراف الدولية دون الانتقاص من استقلال مصر، ولكن الإنجليز أصروا على موقفهم، وضغط الملك على سعد، فما كان منه إلا أن استقال فى يوم 23 نوفمبر، وقبل الملك الاستقالة فى اليوم التالى أى 24 نوفمبر، واتجه سعد للبرلمان فى نفس اليوم وعرض الاستقالة، واتخذ البرلمان قرارا بدعم موقف حكومة سعد، وأعلنوا دعمهم لأى حكومة وطنية تعمل على الحفاظ على استقلال مصر، وأصروا على رفض الإنذار البريطانى.
قام الملك بتكليف زيور باشا رئيس مجلس الشيوخ بتشكيل الوزارة فى نفس يوم قبول استقالة سعد، فشكلها فى نفس اليوم، وكان المفروض أن توجه الحكومة خطابا للبرلمان تعرض عليه برنامجها، وتطلب منه منحها ثقته، ولكن خطاب تشكيل الحكومة الذى وجه للملك خلا من أى برنامج، ثم أصدر زيور قرارا فى 25 نوفمبر بتأجيل انعقاد مجلس النواب لمدة شهر متحديا الدستور، متهربا من تقديم برنامجه إلى البرلمان ذى الأغلبية الوفدية، فبدأت أبعاد الانقلاب تتضح.
قبلت الوزارة الجديدة فى 30 نوفمبر الإنذار البريطانى بدون قيد أو شرط، ثم وقفت موقف المتفرج من اعتقال الاحتلال الإنجليزى لعدد من النواب الوفديين فى البرلمان بالرغم من حصانتهم، ولم تحاول حكومة زيور الدفاع عنهم وهم ممثلون منتخبون عن الشعب المصرى ومتمتعون بالحصانة البرلمانية، ولتكتمل الصورة تم تعيين إسماعيل صدقى باشا وزيرا للداخلية فى 9 ديسمبر، ليتضح دور حزب الأحرار الدستوريين فى المؤامرة، وكانوا من أشد المعارضين لسعد زغلول والوفد.
وفى 24 ديسمبر 1924 اكتمل الانقلاب الدستورى بحل مجلس النواب الأول قبل انتهاء الشهر المحدد لتأجيله بيوم واحد، وعلل الحل بعدم توافق سياسة الوزارة مع البرلمان، وكان البرلمان الأول قد أتم 10 شهور فقط من الخمس سنوات المحددة له، وأصبحت هذه قاعدة مشئومة استمرت طوال التجربة الديمقراطية قبل انقلاب 23 يوليو 1952، فلم يكمل أى من البرلمانات مدته.
أطاحت حكومة أحمد زيور باشا بالدستور، وبدون البرلمان أصبح الملك هو السلطة الوحيدة فى البلاد، ووقفت الوزارة من الملك موقف التابع الخاضع، فالملك من عينهم فى مناصبهم، فكان ولاؤهم للملك وليس للشعب، ودخلت مصر فى نفق الاستبداد والديكتاتورية من جديد.
مثل الانقلاب الدستورى الأول نكسة للنظام الديمقراطى الوليد فى مصر، وفتح الباب للقمع والاستبداد اللذين قامت الثورة المصرية عام 1919 فى وجههما، فعاد القمع والاعتقال، ومطاردة المعارضين، ومصادرة الصحف والرأى، ثم حل الملك فؤاد البرلمان الثانى يوم الاثنين 23 مارس 1925 فى نفس يوم انعقاده، ليكون أقصر برلمانات مصر، حيث استمر لمدة 8 ساعات فقط، ضاربا بالدستور عرض الحائط، وليظل الملك فؤاد جامعا بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية التى اغتصبها، واستمر الانقلاب حتى عام 1926، عندما اضطر الملك لإعادة الدستور تحت الضغط الشعبى.
ويظل الانقلاب الدستورى الأول علامة سوداء فى تاريخ الديمقراطية المصرية، ووصمة عار ظلت تطارد من شاركوا فيها، هؤلاء من أعمتهم كراسى السلطة، وأطماعهم الشخصية عن مصالح وطنهم، وجعلت منهم عملاء للاحتلال الإنجليزى، وللقصر الذى لم يهتم سوى بنهب الوطن، وتبقى الدروس المستفادة من تلك الحادثة، علنا نتعلم من أخطاء الماضى، ولا نكررها مجددا.