"أنتظر الثورة الثانية، أو الجولة الثانية من الثورة، التي ستحدث بشكل أو بآخر، رغم أني لا أعلم متى وكيف ستنطلق".. هكذا تكلم أخيرا صنع الله إبراهيم، المثقف المصري الوحيد الذي صفع نظام مبارك علنا، في ذروة سطوته وغروره، في مشهد نادر (في 20 فبراير 2003). وقع الحدث التاريخي بدار الأوبرا المصرية، في الاحتفال الذي أراد له رجال النظام أن يكون احتفالا بدخول الرجل الصعب إلى "الحظيرة" الثقافية التي افتتحها للمثقفين، من خلال منحه أكبر جائزة مصرية للرواية العربية (مائة ألف جنيه مصري). يحتل المسرح- تحت عدسات كاميرات التليفزيون والصحافة- فاروق حسني وزير الثقافة وجابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وأعضاء لجنة التحكيم.
ويخطو الكاتب الكبير- بقامته النحيلة- إلى الميكروفون: "إنه قدر الكاتب العربى، ليس بوسعه أن يتجاهل ما يجري من حوله، وأن يغض الطرف عن المهانة التي تتعرض لها من المحيط للخليج، عن القهر والفساد، عن العربدة الإسرائيلية والاحتلال الأمريكي، والتواطؤ المزري للأنظمة والحكومات العربية فى كل ما يحدث.
"فى هذه اللحظة- التى نجتمع فيها هنا- تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرد الآلاف، وتنفذ بدقة ومنهجية واضحة خطة لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه. لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان. فعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي فى طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حيا بأكمله، بينما ينتشر جنوده فى كل ركن من أركان الوطن الذى كان عربيا.
"ولا يراودني شك فى أن كل مصري هنا يدرك حجم الكارثة المحيقة بوطننا، وهى لا تقتصر على التهديد العسكري الإسرائيلي الفعلي لحدودنا الشرقية، ولا على الإملاءات الأمريكية، وعلى العجز الذى يتبدى فى سياسة حكومتنا الخارجية، إنما تمتد إلى كل مناحي حياتنا. لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلة المستغلة الروح منا. الواقع مرعب. وفى ظل هذا الواقع، لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت. لا يستطيع أن يتخلى عن مسئوليته. لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكر ويشجب، فلم يعد هذا يجدي، لن أطالبكم بشيء، فأنتم أدرى مني بما يجب عمله.
"كل ما أستطيعه هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختيارى للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها، لأنها صادرة عن حكومة لا تملك- في نظري- مصداقية منحها؛ وشكرا". هكذا، تكلم صنع الله إبراهيم في اللحظة التي بدا فيها النظام شامل السيطرة والغرور، وخاصة بعد أن أحنى له "كبار" المثقفين رؤوسهم، ولم يعد يصدر منهم مجرد انتقاد إلا في جلسات النميمة والغرف المغلقة.
فما الذي يمكن أن يقوله الآن الرجل الذي قال "لا" في وجه نظام حسني مبارك ورجاله الأوفياء؟ الأديب المصري والعربي الوحيد الذي رفض قبول جائزة الجامعة الأمريكية- التي تحمل اسم نجيب محفوظ- سنة 1998؟
المثقف والسياسة
قال الروائي الكبير صنع الله إبراهيم إن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني نفذ خطة ذكية جدا لاحتواء المثقفين، وإبعادهم عن السياسة. وبدا أن صنع الله إبراهيم يلتمس العذر للمثقفين في هذا الصدد حول دور المثقفين الضعيف في معارضة سياسات النظام السابق، مشيرا إلى أن هناك أشياء لا يمكن تجاهلها في السنوات العشر الأخيرة، منها أنه كان هناك رخاء مصطنع، ونوع من الاسترخاء، فرضه عمل الآلاف في الخارج، خصوصا في الخليج.
وأضاف: "كما ظهرت الدعوة إلى التفريق بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، بمعنى أن المثقف من الممكن أن يكون صاحب رأي معارض للنظام سياسيا، وفي نفس الوقت يعمل ضمن مؤسساته، تطبيقا لقاعدة التفريق بين السياسي والثقافي".
الحملة الفرنسية
وكشف صنع الله إبراهيم عن أن انتقاده للحملة الفرنسية على مصر تسبب في رفض ترجمة روايتيه "القانون الفرنسي" و"الجليد" في فرنسا. بشأن تناوله الحملة الفرنسية في رواية "العمامة والقبعة"، ثم إعادة تناولها في رواية "القانون الفرنسي"، وقال إنه استغرب الاحتفال بمرور 200 عام على الحملة الفرنسية في مصر، ما دفعه إلى القراءة أكثر عنها، والتعمق فيها، لاستبيان ما يقال من أنها أتت في صالح التنوير، مؤكدا أنها- في حقيقة الأمر- عطلت التطوير الاجتماعي والفكري الذي كان يجري بمصر في ذلك الوقت.
وأضاف إبراهيم أن الهوية المصرية- قبل الحملة الفرنسية- كانت قد بدأت تتضح، وظهر تيار للبرجوازية المصرية مثله- على سبيل المثال- عمر مكرم والمعلم يعقوب، بدأ يتحدث عن استقلال الهوية المصرية عن العثمانيين. وأوضح أن ما حدث- عقب الحملة الفرنسية على مصر- أن الشعب المصري عاد مرة أخرى إلى العثمانيين والخلافة الإسلامية لمواجهة الأجنبي القادم ضد الإسلام، بالنسبة له.