الأول أمين حداد، «شاعر تشكيلى» ينظم القصائد فتتحول إلى لوحات فنية من التكوينات والألوان، ترسم الندا فى العيون، والدموع الناشفة على الخدود، و«الشمس اللى كانت خانقة الضلمة»، من قبل ما تهب الثورة المصرية ويقول لها يا مصر من غير ما يكون مكسوف. الثانى سمير فؤاد، «فنان شعرى» يرسم الوطن، والحلم يطوف فى خريطة مصر ويملؤها وجوها «مبتسمة وغضبانة»، هنا ضحكة الحياة لطفلة يداعب الهواء شعرها، وهنا نظرة الألم والجلد ووجع السنين لأم الشهيد، وهناك وجوه تصرخ بالرفض والغضب أو بالفرح والتبشير.
الاثنان اجتمعا فى معرض واحد باسم «من الوطن للجنة»، افتتحه إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة مجموعة الشروق مساء الأربعاء فى قاعة بيكاسو بالزمالك.
تجاورت اللوحات الفنية مع معلقات القصائد فى أرجاء القاعة، متوازيان متماسان أحيانا ومتقاطعان أحيانا أخرى، بحيث لا يعلم زائر المعرض هل القصيدة هى التى ألهمت الرسام الشكل والألوان، «يعنى القلب الأخضر، يعنى سمار الوش، يعنى شهيد ما خلصش، لساه قادر، على التضحية؟».
أم أن الوجوه المعجونة بالطينة المصرية والبسمة الرائقة و«بهجة البدايات»، والعيون الغاضبة التى ملأها الإصرار والتحدى التى التقطتها ريشة سمير فؤاد هى التى فجرت القصيدة؟
أم أنها ربما، وكما يقول حداد فى إحدى قصائده «ده جنب ده جنب ده جنب ده، مصر الجميلة اللى زى القمر». كلا الفنانين كان يزأر بالرفض قبل اندلاع ثورة يناير، وكانت روح الاحتجاج والوجوه التى تصرخ مستنجدة تسيطر على أعمال سمير فؤاد، وخاصة فى معرض «لحم» الذى قدمه قبل نشوب الثورة بشهرين، بمشاهد اللحم النيئ والأجساد فى سجن أبوغريب، فى صور رافضة لتردى قيمة الإنسان وانتهاكه.
ومنذ الثورة تبدلت أساليب سمير فؤاد وأصبح أكثر ميلا لشكل «الجرافيتى»، أو استلهام فن الرسم على الجدران فى الشوارع الذى كان ينتشر فى ميادين مصر والمعروف دائما بروحه الاحتجاجية وتقنياته البسيطة السريعة. يظهر ذلك فى خلفيات القصائد المصاحبة للوحات، وفى العديد من اللوحات مثل لوحة تحمل وجه الشهيد أحمد بسيونى وتجاور فيها الخط مع التصوير، حيث كتب عليها كما فى الجرافيتى «المجد للشهيد».
أو كما فى اللوحات التى يعتمد فيها الفنان على تقنية الكولاج، أو تجميع عدة عناصر متباينة على سطح اللوحة من فوتوغرافيا وقصاقيص جرائد مختلطة مع تشكيلات الفنان، وهى أيضا تتماس مع فن الجرافيتى الاحتجاجى الذى يعتمد على تراكم الرسائل، من كتابة ورسوم، التى يكتبها الناس على الحوائط على طول المدينة. كما أنه ترك الألوان الزيتية جانبا فى هذا المعرض وصار أميل إلى ألوان الأكريليك الأكثر سرعة كما يقول الفنان والتى قد تتناسب مع الروح التى يريد التعبير عنها، كما لو كانت الثورة قد أضفت روحا أكثر وثوبا وشبابا على الفنان. أما أمين حداد، ابن عبقرى الشعر فؤاد حداد، فقد كان قد بدأ منذ الثمانينيات الغناء للوطن والشهداء، مثل قصيدة «الأسماء» التى على غرابة احتوائها كاملة على أسماء رحلت فى حب الوطن، «أسامى فيها عرق ودموع وحنية، أسامى تنطق كلام بلسانى وعنيه، شهداء تراب الوطن والزرع والميه». ولم يبرحه التفاؤل والإيمان بأن الغد المشرق قادم لا محالة، مثل ابتسامة المرأة والأم والوطن فى لوحات سمير فؤاد.
كتب أمين فى 2004 «كداب اللى يقول لك إن الدنيا ماهيش دارية، أو إننا بره الدايرة، أو إن تاريخنا هزائم متتالية، كداب اللى يقول لك إن ولادك مش عايزين يقعدوا وياك، وإن المدن الجامعية، ناوية على الهجرة الجماعية، وإن الأرض الزراعية، دخلت كوردون الخرسانة، وإن جميع أحلامك خسرانة، مبنية على الذل، وإن الخيبة طايلة الكل».
بعد الثورة المصرية أصبحت قصائد حداد تكتسح الشبكات الاجتماعية على الانترنت ويتناقلها شفاهة شباب الثوار، صارت مثل يوميات تؤرخ لأيام الثورة عن التحرير وعن خالد سعيد، عن موقعة الجمل وعن ماسبيرو والشهيد مينا دانيال، وعن الشعب «اللى زايد جماله»، وعن مصر اللى «سكنت القصيدة ومش عايزة تسيبها». يخاطب حداد قراءه فى ديوانه الذى صدر مع المعرض بنفس العنوان «من الوطن للجنة»، قائلا: «شفت بقى، ساعات مصر بتبقى سما، وساعات بتبقى وطن، وساعات بتبقى كتاب، سعات تلمسها بايدك، وساعات تلمسها بقلبك».