كان ينبغى التفكير سريعا حتى لا يمضى الوقت هباء.. تحدثت مع عدد من الأصدقاء للخروج من هذا المأزق، ثم اتصل بى أحدهم حاملا خبرا سار لى يتعلق بفتح مطار بنغازى ووجود طائرة يمكن أن تنقلنى إلى تونس أو مصراتة. لم أتمالك نفسى من الفرحة، وبدأت فى وضع خطة العمل التى ركزت فيها على الذهاب إلى مصراتة المحررة، ومنها إلى طرابلس، حيث إن المسافة بين المدينتين، عبر الطريق البرى، تبلغ 200 كيلو فقط، وبالطبع لم أختر تونس لعدم حصولى على تأشيرة. تذكرة مجانية ثلاثة أيام من المعاناة كنت استيقظ خلالها الساعة السادسة صباحا والانتظار فى ظل حرارة تجاوزت الأربعين درجة، بلا طعام أو شراب، حتى المساء داخل مطار بنغازى.. وكل ذلك من أجل نيل تذكرة ذهاب وللأسف لم أحصل عليها. المشهد داخل صالة المطار كان محبطا للغاية فقد تكدست الصالة برءوس العائلات الليبية من صغار وكبار وشباب وشيوخ والجميع يريد هذه التذكرة المجانية. لم يشفع لى كونى صحفيا، فيكفى أن يقول لك أحدهم كلمة «عائلات»، والتى تجسد معنى عميقا تكون له أولوية مطلقة، وبالطبع كان هذا كفيلا بذهابى للبحث عن وسيلة أخرى قبل أن يتملك منى الإحباط. قاعدة بنينا كنت أخرج من المطار، الذى يبعد عن مدينة بنغازى عشرات الكيلومترات، منهكا وذهنى مشتت ما بين البحث عن وسيلة تنقلنى إلى الفندق من هذا المكان البعيد، وبين البحث عن وسيلة تنقلنى إلى طرابلس أو مصراتة.. وأثناء سيرى على بعد مائة متر من مطار بنغازى وجدت لافتة مكتوب عليها: قاعدة بنينا الجوية. كانت بوابة القاعدة الجوية مفتوحة فلم أتردد فى الدخول، ولم يمنعنى أحد، وكانت سيارات تابعة لإحدى كتائب ثوار 17 فبراير قد دخلت من البوابة للتو وبدأت فى إنزال حقائبها وأسلحتها. انتظرت قليلا بجوار البوابة حتى فرغ أحدهم وسألته بشكل مباشر: هل أنتم ذاهبون إلى طرابلس؟ فأجابنى لا إلى مصراتة. فسألته: هل بإمكانى الذهاب معكم؟ فأجابنى بالنفى، قائلا سنذهب على متن طائرة حربية. فسألته: هل لى أن أتحدث إلى قائد الكتيبة؟ فدلنى عليه، وعرفته بنفسى، راويا له مأساتى مع التذكرة، فإذا به يصمت قليلا ثم يجيبنى فجأة: «جهز أمتعتك سننطلق على الفور». كنت جاهزا ومتحفزا لهذه المغامرة المثيرة، ولاسيما أنها المرة الأولى التى أركب فيها طائرة حربية.. علمت وقتها أنها طائرة قديمة متهالكة من طراز «5A-DKS» ويتم استخدامها فى عمليات الشحن الجوى. سبق صحفى مساحة من الوقت فى أثناء تزويد الطائرة بالوقود كانت كافية لى للتعرف على أفراد كتيبة «التحرير» التى منحتنى هذه الفرصة الذهبية المجانية، ومن بين من تعرفت عليهم بالطبع قائد الكتيبة، الذى لم يتردد فى الموافقة على ذهابى معهم، بل قام بنفسه بتدوين اسمى ضمن أسماء الكتيبة. العقيد مصطفى الفيتورى، آمر كتيبة التحرير.. هكذا عرف نفسه لى فى البداية دون أن يفصح لى عن شىء. سألته هل هذه الكتيبة تابعة لثوار 17 فبراير؟ فنفى قائلا: «بل تابعة للجيش الوطنى». وبالطبع دونت هذا فى ذاكرتى لفتح حوار فى هذا السياق، ونحن على متن الطائرة. الوقت مر بسرعة البرق.. جاءت الأوامر من الطائرة بالتحرك، اقتربت مع الكتيبة أنتظر سلم الطائرة، ولكنه لم ينزل، وفجأة فتح الباب الخلفى للطائرة وأنزل منه لوحان حديديان وطلب من الكتيبة التحرك للصعود إلى الطائرة. لم أتخيل ما أنا فيه، الطائرة أشبه بمخزن كبير بلا مقاعد، صعدت مثل الجميع دون التفكير فى مثل هذه الكماليات.. عدد أفراد الكتيبة تجاوز المائتين والطائرة باتت مثل أتوبيس مزدحم للغاية فى مصر. أغلق باب الطائرة، ومع حرارة الجو المرتفعة وهذا العدد الكبير غرق الجميع فى العرق، وبت أسمع أصواتا غريبة من محركات الطائرة ولا أحد يعبأ بذلك غيرى حتى انطلقت المحركات وفجأة خرج صوت عبر ميكروفون الطائرة: قائلا: «تكبير».. فإذا بالجميع يردد الله أكبر وكرروها معا ثلاث مرات. تحدث معى بعد أفراد الكتيبة الذين علموا أنى صحفى، وفاجئونى بأن آمر الكتيبة (العقيد مصطفى) هو أحد المشهورين فى ليبيا برمتها، ومتحدث دائم للقنوات الفضائية. عندما سألتهم عن السبب أجابونى قائلين: «إنه أول ضابط بالجيش ينضم للثورة ونحن كتيبته».. فلم أنتظر وسارعت إلى جواره للحوار معه. الجيش كان مهمشا والكتائب الأمنية كلها تحت سيطرة معمر القذافى.. هكذا بدأ آمر كتيبة التحرير العقيد مصطفى الفيتورى حديثه مع «الشروق»، مؤكدا أن الشعب الليبى برمته يشعر بالظلم، وهو ما جعل هذا الشعب ينتفض ويثور وأنا واحد منه. وعن قصة انضمامه للثورة أوضح الفيتورى: «لم يكن هناك حاجة للانتظار عقب إعلان ثورة 17 فبراير، حيث أعلنت انضمامى للثوار وشرعت فى تشكيل أول كتيبة فى ليبيا، وهى كتيبة التحرير، التى يبلغ قوامها الآن 700 فرد وجميعهم من الجيش. ومضى قائلا: «لم يكن هناك وقت لنضيعه، حيث انطلقت أنا وكتيبتى إلى مدخل الطريق الغربى لوقف هجوم القذافى عن مدينة بنغازى، والحمدلله نجحنا فى ذلك حتى قهرناهم ورجعوا إلى الخلف نحو سرت الآن». وعن هذه الفترة العصيبة كشف لنا العقيد الفيتورى عن المواجهات الدامية التى عاصرها فى بداية الثورة، مشيرا إلى أن الأسلحة التى استطاع الحصول عليها كانت عبارة عن مدفعين 23 و145 المضادين للطائرات والأسلحة العادية، مثل الكلاشنكوف، وذلك فى مقابل ترسانة ضخمة للغاية من الأسلحة كان يمتلكها القذافى. هنا صوت ليبيا الحرة فى أثناء حديث «الشروق» معه أشار العقيد الفيتورى بيده إلى أحد الأشخاص الذين كانوا يجلسون بالقرب منا: قائلا لى «هذا هو أول صوت إذاعى مع الثورة».. فسارعت إليه على الفور، وطلبت منه أن يقص لى روايته. قال: «اسمى صالح الزيانى 44 سنة، أعمل فى الهندسة الإذاعية فى مدينة بنغازى، وكنت أول صوت إذاعى مع الثورة، وتحديدا فى يوم 21 فبراير، الأمر الذى دفع القذافى إلى قصف المحطة بصواريخ سكود، ولكنى لم أتوقف عن تعبئة الشعب مع الثورة». وعن أول بيان أذاعه بصوته مع الثورة أوضح: «أتذكره جيدا ولن أنساه لأن الشعب الليبى والثوار فى الجبهة يحفظونه عن ظهر قلب وقد قلت فيه الآتى: «نحن شباب الثورة، شباب 17 فبراير، ليبيا تنادى بالحرية والعدالة والديمقراطية وإقامة دولة المؤسسات ودولة القانون والمجتمع المدنى وقضاء نزيه وصحافة حرة وسوف تكون بعون الله طرابلس العاصمة الأبدية.. هنا صوت ليبيا الحرة، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. مدينة الصمود الحمدلله هبطت الطائرة المتهالكة فى مصراتة وسط تكبير جميع أفراد الكتيبة وتنفس الجميع الصعداء.. الآن نحن داخل مدينة الصمود، فكان لابد من الذهاب فى جولة سريعة داخل مصراتة قبل الانطلاق إلى طرابلس. ذهبنا إلى أحد الشوارع الشهيرة فى المدينة، وهو بالمصادفة يحمل اسم طرابلس، والذى حررته كتيبة من ثوار بنغازى.. وهناك بدت آثار الدمار واضحة فى كل مكان إلى حد يؤكد أن ما حدث كان حربا بكل معنى الكلمة، ولم تفلح وسائل الإعلام فى نقلها للعالم كما حدثت، وكما يدل عليها هذا الدمار. المدينة شبه خاوية، والحركة فيها بألف حساب.. اللجان الأمنية منتشرة فى كل أرجاء المدينة، أزمة فى البنزين إلى الحد الذى تجد فيه قرابة 100 سيارة تقف وراء بعضها البعض فى محطات البنزين التى لا تعطى للسيارة الواحدة سوى 5 لترات فقط. تجاذبنا أطراف الحديث مع مدير شركة سيارات النقل التى ستنقلنا إلى مشارف العاصمة طرابلس ويدعى بشرى عثمان، فأخبرنا بقصص عن تضحيات كبيرة قدمها أهالى مصراطة فى سبيل الثورة. وقال: «ما تعرضت له مصراتة لم تتعرض له أى مدينة ليبية أخرى، فقد تعرضنا لحرب إبادة من قبل كتائب القذافى والمليشيات التى لم ترحم كبيرا أو صغيرا، بل وتأتى الطامة الكبرى فى قيام هؤلاء المرتزقة باغتصاب الفتيات بلا دين أو حياء». وتابع عثمان قائلا: «كنا نقبع داخل بيوتنا وطعامنا اليومى عبارة عن مكرونة فقط، فلا أحد كان يمكنه الخروج من بيته، فالقناصة فوق أسطح المنازل والدبابات تقصف بقوة كل مبانينا.. كان كل شىء حولنا يدفعنا نحو الاستسلام والهروب، ولكننا فضلنا الموت داخل المدينة وصمدنا من أجل الانتصار أو الشهادة». إلى طرابلس انتهينا من جولتنا السريعة داخل مصراتة، منطلقين بعد ذلك إلى هدفنا الرئيسى من هذه المهمة الصحفية، وهى العاصمة طرابلس، التى كان لابد من قطع مسافة 200 كيلو متر حتى نصل إليها. رافقنا ثوار من مصراتة خشية تعرضنا لإطلاق رصاص، حيث مازال الوضع غير آمن. ونحن خارجون من المدينة شاهدنا عددا كبيرا من الشوارع المغلقة بسيارات النقل الثقيل الحاملة لكونتينر يحوى بداخله رمالا لامتصاص طلقات الرصاص وكان الهدف بالطبع من إغلاق تلك الشوارع هو منع دبابات الكتائب من الدخول إلى شوارع مصراتة. على الطريق الممتد إلى طرابلس وجدنا آثار التدمير الواضح لدبابات وناقلات جنود كلها لكتائب القذافى دمرها حلف الناتو الذى كان بمثابة غطاء للثوار للانطلاق إلى العاصمة. ومما أقلقنا، وبالطبع أقلق سائقنا، هو ندرة البنزين داخل محطات البنزين. لجان التفتيش لكتائب ثوار مصراتة التى مررنا بها لا يمكن عدها أو حصرها حتى وصلنا إلى مشارف طرابلس وعلمنا خلال مرورنا على هذه اللجان أنه مسموح خروج الأشخاص من مصراتة أما من يريدون الدخول إليها، فإن لم يكونوا من سكانها، فسيتم منعهم من دخولها، ولا استثناءات فى ذلك. عندما استعلمنا عن السبب وجدنا أن ثوار مصراتة يتخوفون من دخول كتائب القذافى أو الطابور الخامس إلى المدينة بعد سيطرتهم على الميناء، ومن أجل إعادة الاستقرار المفقود إلى المدينة أيضا. العاصمة ترحب بكم سعادة بالغة داهمتنا فور رؤية اللافتة التى تحمل اسم طرابلس التى كبدتنا كل هذا العناء، ولاسيما أننا ذهبنا إليها من خلال المعبر البرى عبر مدينة بنغازى، وليس عن طريق تونس، وهو الأسهل. تركتنا الحافلة عند مدخل المدينة وهناك أوقفت سيارة أجرة للبحث عن الفنادق المخصصة للصحفيين، وهى كورنتى والودان وإيركسوس.. كان الإرهاق قد تمكن منى، وكنت أنتظر أن ألقى بنفسى فوق أقرب سرير، لذا قلت للسائق أذهب إلى أقرب فندق من هذه الفنادق. مفاجأة الفنادق دخلت غرفة استقبال فندق الودان، مستبشرا وسائلا الموظف المختص عن سعر إيجار الغرفة الفردية.. صمت قليلا، ثم أجابنى بمفاجئة صادمة: سعر الغرفة 170 يورو غير شاملة أية وجبات. مسرعا خرجت من الفندق بعد هذه الصدمة وقبل أن تغادر سيارة الأجرة التى أحضرتنى.. طلبت من السائق الذهاب إلى الفندق الثانى الموجود به كل المسئولين من المجلس الوطنى الانتقالى والصحفيين.. وهناك كنت على موعد مع مفاجأة صادمة أكثر من سابقتها، وهى أن سعر الغرفة 210 يورو وأيضا غير شاملة الوجبات. تجولت فى الفندق ووجدت بداخله طاقم قناة «الجزيرة» وعدد من القنوات الأجنبية وعدد هائل من المسئولين الذين سبق وأن تعرفت عليهم من أعضاء المجلس الانتقالى، وقبل أن أتخذ قرار الحجز أردت أن أن استكشف كيف هى الحياة الآن فى عاصمة القذافى السابقة. أخبرنى المسئول بأن المدينة مازلت خطرا للغاية بسبب الطابور الخامس وكتائب القذافى الكامنة، والتى تتحرك ليلا وتهاجم وتخطف وتغتصب أيضا من أجل تشويه الثوار وإيجاد حالة من الفوضى.. ونصحنى بعدم الجدال مع أحد ولا الخروج ليلا. وأضاف أن جميع المحال مازلت مغلقة ومحطات البنزين تعانى من أزمة ولا يوجد إنترنت سوى فى الفندق، مضيفا أنه من الأفضل أن أمكث داخل الفندق ولاسيما أنه تم تأمينه بشكل كامل. وحمسنى هذا المسئول فذهبت على الفور إلى موظف الحجز، فألقى إلى بمفاجأة جديدة: لا توجد غرف شاغرة ومن الصعب توفير أى غرفة فى القوت الحالى. خرجت من الفندق وكان الليل قد هبط، فدعوت الله أن يسهل لى أمرى.. وما هى إلا لحظات حتى وجدت شابين كنت قد تعرفت عليهم فى مدينة بنغازى وقد حضرا للتو إلى طرابلس للمشاركة فى مؤتمر بالفندق. وفور علمهم بما حدث معى طلبا منى المكوث معهما، وعندما سألتهما أين يسكنان، فأخبارانى بأنهما يمكثان داخل معسكر كتيبة تابعة للجيش الوطنى.. فلمعت عيناى بهذه المفاجأة السارة التى أضاءت لى ظلام طرابلس كى استكمل مهمتى الصحفية فى عاصمة ليبيا الحرة.