شتد الجدال وكأنه تضليل عن القضايا الجوهرية وتحديات اللحظة الهائلة التى نعيشها، فى فرعيات بعيدة عن القضايا الأساسية والتحدى الأكبر، مثل قضية المواد 76، 77، 88، 93، 179...إلخ، ومن الطبيعى أنها مواد مفصلة بالمقاس ومواد سيئة السمعة لدى أهل العدل والموضوعية، ولكن لا يجب أن ننسى القضية الكبيرة وهى أن الدستور فاسد من جذوره. وشرح هذا الفساد هو أن الدستور الصحى منظومة متكاملة من أهم عناصرها تفعيل معادلة كانت قد ضاعت عندنا وهى أن «الشعب مصدر السلطات» وهى قضية اكتسبتها الشعوب على مراحل آخرها مواثيق الإعلان العالمى لحقوق الإنسان واكتسبها الشعب المصرى وأثبتها بجداره فى ثورة 25 يناير وبقى مع الطاقة الابداعية الهائلة التى انبثقت، أن يتصدى لتفعيلها فقهاء القانون الأمناء على قواعد العلم والقانون الملزمة، على أن يكونوا من أصحاب القنوات المفتوحة على نبض وإيقاع ورسائل الثورة الشعبية المذهلة ليستلهموا من الشعب القائد والمعلم والرائد، الدستور الجديد الذى يستحقه ويتطلع إليه. أما الدستور المرقع الحالى فقد وضعه أصحابه فى ظل فلسفة مأساوية هدفها سحب التمكين من جميع فئات الشعب ومؤسساته، وفى ظل حالة انحراف عام أنتج مشرعين وفقهاء قانونيين قرروا التسليم بطلبات السلطة الشمولية والتبرير لها، بممارسة ما سماه الشعب فى حكمة بالغة «ترزية القوانين» ليقدموا مظاهر التشريع الليبرالى بلا محتواه، مظاهر الدستور الحديث بينما هو عمليا وتطبيقا ينتمى إلى العصور الوسطى (أنا الشعب والشعب أنا وأنا الدولة والدولة أنا!) حيث لا فصل بين السلطات ولا ضمانات للحيادية والعدالة ولا حريات حقيقية إلا ما يمنحه الحاكم ولا آلية لمساءلة السلطة التنفيذية المتغولة . والحق أن «ترزية القوانين» والدساتير هؤلاء برعوا فى أن يأخذوا، كما قال أ.د. ثروت بدوى وأ.د. فتحى فكرى أساطين أساتذة القانون الدستورى فى حكمة بالغة، «يأخذوا بالشمال ما يبدو أنهم يقدمونه باليمين ». وهكذا فإن الدستور الذى يحكمنا بل قل يخنقنا ككل هو فى الواقع تفصيل عبقرى لتدعيم جمهورية رئاسية أبدية، تختزل الشعب كله والسلطات فى شخص رئيس الجمهورية، وتهدر مبدأ الفصل بين السلطات، كما تهدر مهمة وضع آليات آمنة وأمينة لتحقيق التوازن بين السلطات، كما تهدر مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان ومتطلبات تمكين المجتمع المدنى، رغم العناوين البراقة التى تدعى عكس ذلك . هذا الدستور لا يجدى معه بالنسبة لطموحات الشعب المشروعة ترقيع أو تعديل أو إلغاء مادة هنا وهناك فالفلسفة الأصلية المبنى عليها الدستور فاسدة ومضادة لتفعيل سلطة الشعب عن عمد وذكاء قانونى أسىء توظيفه . ناهيك عن أن النظام الحالى ما قبل 25 يناير أثبت أنه لا يكترث حتى بهذا الدستور المعيب والمتناقض، الذى هو يكرس الفلسفة الشمولية وسحب التمكين من كل طوائف الشعب وأحزابه ومؤسساته الأهلية وإعلامه وجامعاته وصحفه بل وقضائه، مع إهدار مبدأ أن «الشعب مصدر السلطات» الذى يتشدقون به حتى خُرمت طبول الآذان عندنا، وكل التشريعات عندنا تطبق مصيبة أن «السلطة مصدر السلطات» والشعب مسحوب منه التمكين، وهذه هى القضية الكبيرة: فلسفة الدستور ومعظم القوانين المكملة والتشريعات المواكبة كلها معيبة ونحتاج إلى منظور وفلسفة جديدة تماما وعصرية . والغريب أن نكتشف فجأة أن النظام وقادته الذين أهدروا القانون وأهدروا حتى الدستور الشمولى الذى يمسك بخناق هذا الشعب وحكموا بقانون الطوارئ ثلاثين سنة متوالية، فجأة أصبحوا مهتمين جدا بمبادئ القوانين وبالدستورية والشرعية والالتزام بالدستور، ولا نرى ذلك إلا محاولات غير مقنعة ومفضوحة لتصعيب وتعقيد عملية اتخاذ القرارات العاجلة الضرورية استجابة لمتطلبات ائتلاف ثورة 25 يناير فى الطريق لولادة الدستور العصرى الجديد، بعد الاستجابة للطلبات التى لا تحتمل الابطاء فى مجال الحريات والحقوق والمعتقلين ومحاسبة المفسدين وتنحيتهم عن مراكز السلطة والقرار. وهى طلبات طبيعية تنادى بها الآن كل طوائف الشعب فى هذه الثورة البديعة العظيمة، التى تمثل كنزا عظيما انبثق فى المجتمع المصرى، كان كل مخلص فى هذا الوطن يتمناه ويحلم به . أعطانا إخواننا وأخواتنا الثوار بل أعطوا البشرية جمعاء كنزا يفوق بمراحل كل آبار البترول بالمنطقة فهو الكنز الحى النابض البشرى، هو انبثاق الانتماء والإيجابية والإحساس بالمسئولية مع الانصهار المعجز لجميع فئات المجتمع من أجل تفعيل قوة الجماعة التعددية المتناغمة بما يشبه المعجزة وبالطرق السلمية إزاء أقسى أنواع الطغيان والاعتداء. جميع الأعمار والطبقات الثقافية والاجتماعية والمناظير تناغمت فى سيمفونية ترفض الظلم والفساد وتطالب بحقها فى المشاركة فى وضع القرار واختيار الحكام أو إعفائهم وببساطة فى حقوق الإنسان الطبيعية فى العدل والحرية، فى دستور يضمن انتخابات حرة تعددية تنافسية آمنة عادلة وشفافة لا مجال فيها لتلاعب أو تزوير، لا تتدخل فيها سلطة تنفيذية أو شرطة وتطالب بمظلة آمنة تضمن آليات حقيقية لحماية أمان المواطن وحقوقه حسب الإعلان العالمى لحقوق الانسان وهذا الإعلان وثيقة تستحق النشر والدراسة بجدية من كل الأطراف الآن وأدعو لنشرها وتعميمها فى هذه الظروف شديدة الثراء والخصوبة . بعد ما تم من إنجاز رائع تخطى أحلى الأحلام، على الجميع أن يتوخى الحكمة والإخلاص للتحرك بثبات وشفافية ومشاركة حقيقية، لسحب التمكين من ركائز الفساد السابق ورموزه حماية للنبت الجديد، ولتصحيح الأوضاع غير الطبيعية مثل قانون الطوارئ ومثل المعتقلين بسبب الرأى والمواقف، مع إطلاق حرية الصحافة والإعلام والتواصل والحوار والتعبير وحرية تكوين الأحزاب والهيئات ومؤسسات المجتمع المدنى، تهيئة للمناخ الضرورى لعودة ونمو الوعى الحديث والتشريع العصرى مواكبا لعودة الروح التى رأيناها فى 25 يناير، وما يلى ذلك من أن تقوم هيئة تأسيسية منتخبة على أسس سليمة وتمثيل عريض بعملية تقديم الدستور العصرى الجديد المنشود لتدخل معه مصر عصر النهضة الحديثة . وقد يرى أصحاب الحكمة شريطة فتح قنوات التواصل بفعالية وصدق مع ثوار 25 يناير مسالك مختلفة تؤدى إلى الديمقراطية البرلمانية بدستورها المنشود ولا أرى عيبا فى ذلك الاختلاف طالما يكون الحكم والقائد والرائد هو الشعب مصدر السلطات وصاحب الثورة ممثلا فى الثوار الحقيقيين من الشباب ومن الكبار شباب القلب وأصحاب الحكمة والرؤيا والأحلام ممن لم يلوثوا بالدوران فى فلك النظام الفاسد الذى أسقطه الشعب المنتظر لتفعيل هذا السقوط . وفى المرحلة الانتقالية يحتاج الوطن حماية دستورية مؤقتة مع إلغاء حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية وتدعيم الحريات ومساحات الحوار والتفاعل، ريثما يتم بكل الحكمة وبأوسع مشاركة انبثاق دستور عصرى جديد بالكامل، وعندنا أمثلة إرشادية لدستور مؤقت بدءا من دستور 1923 الليبرالى الذى تجاوزه الزمن ولكنه مع ذلك أكثر حرية بمراحل من دستورنا الحالى!، إلى الدستور الذى أقرته لجنة 1953 1954، قبل أن يتمكن فيروس خدمة الحكم الشمولى المطلق من المشرعين، وتحت أيدينا للدراسة دساتير الدول التى عانت من دساتير الحكم الشمولى، ثم تحررت منها بنجاح مثل ألمانيا وإسبانيا والأرجنتين والبرازيل، فليس معضلة مطلقا على أساتذة القانون الدستورى ممن لم يتلوثوا بالعمل كترزية قوانين وممن لا يسعون لاختطاف الثورة العظيمة إنسانيا، لأهداف خاصة ومناظير عقائدية ضيقة تخطتها سيمفونية الشعب المتناغم بكثير، أن يقوموا بصياغة الدستور المؤقت فورا الذى يعلى قيمة الإنسان والمواطنة والحق الأصيل فى العدل والحرية، ثم الدستور الدائم بعد ترسيخ مناخ الحرية والتعبير والتفاعل الآمن من خلال لجنة تأسيسية بعد الانتخابات الحرة . فى ظل مناخ جديد حسب طلبات ائتلاف ثورة 25 يناير، ومع التجاوب المحمود للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالاعتراف الحكيم بشرعية الثورة، ندعو إلى ترجمة المقولة البسيطة التى أُنكرت ولاتزال تُنكر حتى هذه اللحظة، رغم أننا شاهدناها وتعايشنا معها فى ميدان التحرير ألا وهى «الشعب مصدر السلطات ». أملى ورجائى ألا يغفل الفقهاء والأساتذة والخبراء عن الرؤية للكليات، وعن الاخلاص الكامل لفلسفة وروح القوانين والدساتير الحديثة التى تعبر عنها بصدق وأمانة النصوص والمواد الواردة فى الدستور الحديث، دون ثغرات ميكيافيللية مضللة ومتعمدة. وفى مقال تالى بإذن الله أتمنى أن أقدم المبادئ التى يجب أن يؤكدها ويحميها دستور عصرى يطلق ملكات المجتمع وإبداعاته وينقله إلى المشاركة فى إيقاع النهضة الإنسانية والعلمية والإبداعية والاقتصادية . وحيث إننى أعلم أن الجيش المصرى والمجلس الأعلى للقوات المسلحة به المخلصون والواعون على كل المستويات فليسعوا يدا بيد مع الشعب وبشفافية كاملة متعاونة مع أصحاب الشرعية الحقيقية فى هذه اللحظات التاريخية الهائلة والدقيقة معا، إلى المضى بلا تردد أو إبطاء فى تسليم الشرعية لأصحابها من خلال مجلس رئاسى يضم ممثلى الشباب محركى الثورة مع ممثلين من الجيش المحافظ على الشرعية دون أن يكون بديلا لها، وبعض من رموز العمل المدنى ممن لم يتلوثوا بالدوران فى فلك النظام أو على أعتابه، ويجرى تكوين حكومة مدنية يشترك فيها أصحاب الشرعية الجديدة بعد أن مررنا واختبرنا مأساة خواء وفساد الحزب الحاكم وخواء الأحزاب وخواء الممثلين عن الشعب فى العصر السابق وفى المجالس المنحلة . إذن حكومة مدنية نقية من أصحاب المشروعية وأفضل الكفاءات التى لم تتلوث ولم تفقد المصداقية لتسيير الأعمال، بما فى ذلك ضخ الحياة فى شئون النشاطات الطبيعية للمجتمع والإنتاج ريثما تقوم لجنة تأسيسية منتخبة بصياغة دستور جديد يواكب العصر بل ويسبقه كما تستحق مصر الصابرة بحق، بعد أن أعطت ثورة 25 يناير درسا للعالم كله فى آليات التغيير السلمى، وتتم الانتخابات بعد فترة كافية من إطلاق الحريات فى ظل حكومة مدنية لها الشرعية تطبق دستورا ليبراليا مؤقتا وفى حماية الجيش الأمين على الشرعية دون أن يكون بديلا لها، وفى حماية الشباب وأبناء الوطن الذين هم الحامون الفاعلون والطبيعيون لأمن الدولة والمواطن وليس أجهزة الأمن وقانون الطوارئ، وهؤلاء الشباب المهمشون سابقا هم الذين حموا الوطن فعلا فى فترات انسحاب أجهزة الأمن وتضليلات أجهزة الإعلام «الحكومى». ولنذكر فى الختام أن الأصل فى الأمور الإباحة والعلانية والشفافية والمسئولية فى ظل القانون المدنى والدستور ومواثيق حقوق الإنسان وفى ظل التزام يحدده القانون المدنى وصلاحيات الشعب وليس الأجهزة الأمنية المختلفة العلنية والسرية. وأتحفظ كثيرا على مخاطر تحيط ببعض المتخصصين والفقهاء الذين قد يغرقوا فى التفاصيل لدرجة أن ينفصلوا عن فهم مقتضيات حماية الكليات والتجاوب الخلاق مع التحديات البديعة الكبرى التى تكشفت عنها الصورة التاريخية 2011 لثورة مليونية فريدة تخطت 1919 و1952 (الحق والعدل فوق القوة والأمة فوق الحكومة والشعب بلا عنف أو سلاح صاحب السلطة والشرعية ومصدر السلطات) ونقلتنا ثورة مصر بل ونقلت العالم إلى القرن الواحد والعشرين وما بعده من مستقبل باهر وإمكانات فريدة للعدل والحرية وحقوق الإنسان المؤدية إلى الإبداع مع تطور المعلوماتية والتشبيك والوسائط المتعددة والإبداعات البرمجية التى يمكن أن تؤمن انتخابات وتبادل آراء وأفكار محصنة ضد التزوير والتهديد والتلاعب. فلنسعد ونفخر جميعا بعظمة وإبداع ما تحقق، ولنعلم أن الثورة لاتزال فى خطواتها الأولى الغضة، لنسعى معا إلى تفعيل الإمكانات الهائلة والبديعة التى نراها كامنة وقابلة للتحقيق حالة تخطى محاولات الإجهاض والالتفاف والإنكار والتقزيم، التى لا شك سيحاولها أصحاب المصلحة فى استمرار الأمور على ما كانت عليه مع تغيير الثياب والألوان وبعض التعديلات التجميلية مع الحفاظ على الجوهر الفاسد، ومن هنا أهمية الطلب الملح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بكل الحب والتقدير والأمل أن يجرى الالتزام بالشفافية الكاملة والحوار المستمر والوضوح الكامل للخطوات التراكمية لتفعيل اعترافهم المحمود بشرعية ثورة 25 يناير وبالتالى سقوط النظام السابق وتسليم السلطة بكل عناصرها للشعب صاحب السيادة. إن التأخير والغموض قد ينحر فى الثقة ويثير الشكوك بطريقة لا يودها أى محب للوطن ولا لجيش الوطن