ليست هذه هى الكارثة الوحيدة، لأن الكارثة الأكبر أن ذلك الهوان وجد من يدافع عنه ويستعذب استمراره، ويتجرأ على التنديد ببدائله، على الأقل فذلك ما سمعناه فى خطاب السيد محمود عباس، الذى ألقاه فى مهرجان ذكرى عرفات الذى أقيم فى رام الله يوم الخميس الماضى (11/11). إذ اعتبر أن الممانعة والمقاومة أكذوبة ومجرد شعارات تنفع للاستهلاك فى الفضائيات وهو الكلام الذى احتفت به وأبرزته صحيفة الشرق الأوسط على صدر صفحتها الأولى فى اليوم التالى مباشرة. قبل أيام قليلة من خطبة أبومازن كان الدكتور صائب عريقات كبير مفاوضيه يتحدث فى ندوة عقدت فى مركز «ودرو ويلسون» بواشنطن (يوم 5/11)، وأعلن أن السلطة الفلسطينية ستعطى الإدارة الأمريكية مزيدا من الوقت لحل مشكلة الاستيطان الذى تصر الحكومة الإسرائيلية على استمراره، فى حين ترفض السلطة الفلسطينية استئناف المفاوضات المباشرة ما لم توقف مشروعات الاستيطان. وهذه «المهلة» التى تحدث عنها السيد عريقات لها قصة لابد أن تروى. ذلك أن الأمريكيين بعدما استدرجوا الفلسطينى إلى لعبة المفاوضات غير المباشرة التى تحولت بعد ذلك إلى مباشرة. وجدوا أن الأخيرة وصلت إلى طريق مسدود وتوقفت فى 26 سبتمبر الماضى. وهو اليوم الذى استأنفت فيه إسرائيل بناء المستوطنات بصورة علنية ورسمية. وكانت تلك الخطوة بمثابة صفعة لأبومازن وفريقه، فسارع إلى عرض الأمر على لجنة المتابعة العربية التى أصبحت تؤدى دور «المحلل» لخطواته التى لا يستطيع تمريرها من خلال الشرعية الفلسطينية المعتبرة. حينذاك لم تجد لجنة المتابعة شيئا تفعله سوى إعطاء الإدارة الأمريكية التى أصبحت تملك مفاتيح الملف مهلة شهر للبحث عن مخرج من ذلك المأزق. وأغلب الظن أنه وضع فى الاعتبار فى ذلك القرار أن تكون انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى قد تمت خلال ذلك الشهر، وأن يكون الرئيس الأمريكى قد تحلل بصورة نسبية من بعض شواغله الداخلية. المهم أن هذه المهمة انتهت فى 9 نوفمبر، دون أن يصدر شىء عن الإدارة الأمريكية. فى حين أن إسرائيل واصلت مشروعاتها الاستيطانية باندفاع لافت للأنظار، فقررت بناء 1300 وحدة سكنية فى القدسالمحتلة و800 وحدة أخرى فى مستوطنة «أرئيس» كبرى مستوطنات الضفة الغربية. وكل الذى فعله الرئيس أوباما أنه صرح بأن مثل هذه الخطوات «لا تساعد» فى عملية السلام، كما أن فرنسا ودول الاتحاد الأوروبى أعربت عن «أسفها» إزاء ذلك. ولأن السلطة الفلسطينية راهنت على الموقف الأمريكى، فإنها لم تجد مفرا من تمديد المهلة لأسبوعين أو ثلاثة، إلى ما بعد العيد، وكأن البيت الأبيض سيكون بدوره فى عطلة خلال عيد الأضحى! 2 أشهر وصف للرئيس أوباما بعد ظهور الانتخابات وفوز الجمهوريين بالأغلبية فى مجلس النواب أنه تحول إلى «بطة عرجاء» ستتعثر فى مشيتها خلال السنتين القادمتين اللتين بقيتا له فى الحكم. من ثم فما عجز الرئيس أوباما عن الوفاء به فى السنتين الماضيتين (وقف الاستيطان مثلا)، سيصبح أعجز إزاءه خلال السنتين القادمتين. ذلك أن مزايدة الجمهوريين على الجميع فى الانحياز إلى جانب إسرائيل والعداء للفلسطينيين أمر معلوم للكافة. آية ذلك مثلا أن النائبة الجمهورية المرشحة لرئاسة لجنة الشئون الخارجية فى مجلس النواب (ايليناروس) وصفت بأنها نسخة أخرى من أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلية، لأنها متطرفة ليكودية الهوى. وقد أيدت كل حرب إسرائيلية ضد الفلسطينيين، وكل حرب أخرى ضد العرب والمسلمين (جهاد الخازن 6/11). لا غرابة فى أن تعزز نتائج الانتخابات التشريعية الأمريكية من موقف رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو الذى لم يكترث بعتاب الإدارة الأمريكية عليه جراء رفضه وقف الاستيطان. وقد ظهر ذلك الاستقواء جليا حينما رد على انتقاد أوباما لمشاريع البناء الاستيطانى الجديد فى القدس بقوله «القدس ليست مستوطنة. إنها عاصمة دولة إسرائيل الموحدة إلى الأبد». وهو ما اعتبره الأمريكيون وقاحة و«استفزازا مقصودا». فى التقرير الذى نشرته صحيفة الشرق الأوسط (فى 11/11) من تل أبيب بخصوص هذه الواقعة، ذكر مراسلها أن كلام نتنياهو صدر عشية اجتماعه مع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون، مما فسر على أنه تحد سافر للولايات المتحدة وأن المراقبين الإسرائيليين رأوا فى هذا التحدى بالون اختبار يقيس به نتنياهو مدى ضعف الرئيس أوباما بعد نتائج الانتخابات النصفية للكونجرس. (الشرق الأوسط 11/11). كى نعطى الغضب الأمريكى حجمه ونفهم حدوده نلاحظ هنا، أن العتاب أو حتى الغضب الأمريكى يظل عند حدوده الدنيا، وربما كان محصورا فى التراشق الإعلامى فحسب. آية ذلك أنه فى الوقت الذى يتحدث البعض عن أزمة فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تبين أن الكونجرس صادق فى الشهر الماضى على زيادة حجم المعدات العسكرية التى تحتفظ بها فى مخازن الطوارئ الأمريكية فى إسرائيل فى العامين المقبلين من 800 مليون دولار إلى مليار و200 مليون دولار. وهو ما يعنى عمليا زيادة حجم المعدات التى توضع تحت تصرف إسرائيل فى حالة الطوارئ بنسبة 50٪، علما بأن العتاد الجديد يشمل قنابل ذكية. وفى تعقيب صحيفة «هاآرتس» على هذه العملية ذكرت أنها من قبيل طمأنة الدولة العبرية إلى وقوف أمريكا إلى جانبها، وأنه لا قلق على إسرائيل من «المجازفة» بتحقيق السلام مع الفلسطينيين. 3 نتنياهو يعلم جيدا أن الرئيس أوباما صار أضعف مما كان عليه قبل الانتخابات الأخيرة، كما أنه على دراية كافية بقلة حيلة السلطة الفلسطينية ورئيسها، وهو ما يدفعه ليس إلى التمسك بموقفه والمضى فى مشروعه بغير تردد. ليس ذلك فحسب وإنما يشجعه ذلك على أن يرفع من سقف طلباته ويتدلل إلى أبعد مدى ممكن. فهو أولا يتحدث عن وقف جزئى ومحدود المدة للاستيطان لا يشمل القدس كما أنه يساوم على المقابل الذى تتلقاه إسرائيل إذا ما قبلت بذلك «التنازل»، فتارة يتحدث عن شرط الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، وتارة أخرى يبحث مع الأمريكيين فى شروط صفقة أمنية كبيرة أصبحت تفاصيلها محورا لسيل من التقارير الصحفية التى خرجت من واشنطون مؤخرا. إذ تحدثت تلك التقارير عن «حزمة حوافز» ستقدمها الولاياتالمتحدة إلى إسرائيل لمجرد أن تقبل بالوقف الجزئى والمحدود لمشروعاتها الاستيطانية. الأفكار التى تضمنتها الحزمة المقترحة هى: عقد اتفاق أمنى مع الولاياتالمتحدة لمدة عشر سنوات يوفر لها الحماية ضد الصواريخ ويضمن تفوقها العسكرى الإبقاء على وجود إسرائيل فى منطقة الأغوار لعشرات السنين بحجة منع المتسللين من الأردن ضمان منع الفلسطينيين أو العرب من تدويل الموضوع عبر نقل القضية إلى مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى غير ذلك من الشروط التى اعتبرها سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطينى أسوأ من الاحتلال. من المفارقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلى كان قد اجتمع فى بداية هذا الأسبوع لمدة 7 ساعات مع وزيرة الخارجية الأمريكية لبحث العقبات التى تحول دون استئناف المفاوضات المباشرة، والاستيطان فى مقدمتها، لكن البيان الذى صدر بعد الاجتماع لم يشر إلى مسألة الاستيطان، وتحدث فقط عن وجوب «أخذ حاجات إسرائيل الأمنية فى الاعتبار فى أى اتفاق سلام مستقبلى مع الفلسطينيين. وكرر التزام واشنطون الراسخ بأمن إسرائيل وبالسلام فى المنطقة». 4 لا تفوتك ملاحظة أن نتنياهو خاطب واشنطون مباشرة ولم يخاطب الفلسطينيين أو حتى العرب «المعتدلين»، وإنما أصبح ينقل إليهم ما تم الاتفاق عليه مع الأمريكيين. وهو ما فعله من قبل بشأن المفاوضات غير المباشرة والمباشرة. بما يعنى أن الإنتاج يتم بين الطرفين، وأن الإخراج يتولاه الفلسطينيون والمعتدلون العرب من خلال لجنة المتابعة العربية أو فى مؤتمرات ترتب لإحسان الإخراج وستر عورات الموقف. لاحظ أيضا أن كل تلك الجهود تدور فقط حول إمكانية استئناف المفاوضات، التى تمهد للحل النهائى الذى لا يعرف له أجل، رغم أن الرئيس الأمريكى تحدث عن فترة سنة للاتفاق على ذلك الحل. فى الوقت ذاته فليس ثمة أى أفق أو إشارة إلى الاحتلال الذى هو جوهر القضية ولا لحدود الدولة الفلسطينية أو اللاجئين. ولا حديث عن القدس بطبيعة الحال. ولكن أمثال هذه العناوين الرئيسية مؤجلة عمدا لإتمام الانقلاب الجغرافى الذى تفرضه إسرائيل على الأرض يوما بعد يوم، والذى من شأنه استحالة قيام الدولة من الناحية العملية. لاحظ كذلك أن إسرائيل وهى تسعى إلى توقيع اتفاق أمنى لمدة عشر سنوات مع الولاياتالمتحدة تريد توفير غطاء يحميها مما تتصوره مخاطر تهددها من محيطها، فى الوقت الذى تتولى فيه السلطة الفلسطينية حمايتها مما يقلقها من الضفة الغربية من خلال التنسيق الأمنى، فى حين يتكفل حصار غزة الذى تقوم فيه مصر بدور أساسى بتأمين إسرائيل من أى مصدر للقلق يلوح من القطاع. وفى حين تؤمَّن على هذا النحو من كل صوب، فإنها تستمر فى إتمام تهويد القدس وطرد فلسطينيى 48 بالتدريج، من خلال سحب الهويات وإجبار كل من يطلب الجنسية الإسرائيلية على الاعتراف بيهودية الدولة، ومطالبة كل موظف بإعلان الولاء لتلك الدولة اليهودية وإلا طرد من وظيفته.. إلى غير ذلك من الإجراءات التى تسهدف اقتلاع من تبقى من الفلسطينيين من بلادهم. كأن كل ما يحدث الآن له هدف واحد هو حراسة إسرائيل لتمكينها من ابتلاع فلسطين وطمس الوجود العربى فيها تماما. وهو المناخ الذى سوغ لأحد أعضاء الكنيست (اربيه الداد) أن يدعو إلى عقد مؤتمر فى تل أبيب خلال شهر ديسمبر القادم لمناقشة خيار التخلى عن حل الدولتين لشعبين، وتحويل الأردن إلى دولة الفلسطينيين القومية. ذلك كله يحدث والسلطة الفلسطينة ومعها عرب الاعتدال لا يزالون يقفون بالباب الأمريكى ينتظرون حلا. وهم يعرفون جيدا أنهم سلكوا طريقا لا يمكن له أن يوصل إلى حل طالما بقيت موازين القوى مختلة بين طرفى الصراع. لكنهم لأسباب يطول شرحها اختاروا أن يستجدوا الحل على أن يسعوا لإعادة التوازن للميزان المختل. وحاربوا بضراوة مستغربة كل دعوة للاستقواء بأسباب أو عناصر القوة الحقيقية، حتى الممانعة سخروا منها كما رأينا فى كلام أبومازن الذى اعتبرها أكذوبة وشعارات تليفزيونية. أما المقاومة فقد أصبحت مصطلحا سيئ السمعة وجريمة تعاقب عليها قوانين مكافحة الإرهاب. علما بأن القضاء عليها واجتثاثها يعد المهمة الأساسية لجهاز الأمن الوقائى فى الضفة، وحجر الزاوية فى التنسيق الأمنى مع الإسرائيليين. الآن يتحدث السيد أبومازن ورجاله عن «خيارات» تراوحت بين مطالبة واشنطون بالاعتراف بدولة فلسطين أو التوجه إلى مجلس الأمن بذلك الطلب، وإذا عطله الفيتو يتوجهون إلى الجمعية العامة. وهم بذلك يضحكون علينا ويحاولون إيهامنا بأنهم أصحاب قرار، فى حين أن أى طفل فلسطينى يعرف أنهم لا يملكون سوى الانصياع لما تريده واشنطون التى تدفع لأبومازن وجماعته رواتبهم. وهم أيضا يعرفون جيدا أن أبوعمار قتل لأنه تمسك ببعض الثوابت رغم كل ما قدمه من تنازلات من ثم فالسؤال ليس إلى أى خيار سينحازون، ولكنه كيف سيقومون بإخراج الخيار الذى تقرره واشنطون. لأن الذين يستجدون ليس لهم الحق فى الاختيار وغاية ما يسمح لهم به أن يقبلوا أيادى المانحين.