أرى لزاما على بصفتى قد شغلت منصب قاض بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب فى يوغوسلافيا السابقة وشاهدت بنفسى كيف تمزق الشعب اليوغوسلافى بين مسيحيى الصرب والكروات ومسلمى البوسنة أن أتقدم كشاهد عيان على ما يمكن أن يؤدى إليه التمييز الدينى، ودور الأغلبية فى إثارة الفتن الطائفية ضد الأقلية وخلق روح التغريب بينها وبين الأقلية، وهو تغريب ينتهى به المطاف إلى رفض المشاركة والاضطهاد مما يدفع الأقلية إلى إيقاظ رغبتها فى تأكيد ذاتها والتكتل لمواجهة الأغلبية. فمن المعلوم أن المسلمين كانوا يعيشون فى أمان مع إخوانهم الصربيين والكروات بوصفهم مواطنين لا يتميزون عن بعضهم البعض بل لا يشعرون بما يميزهم من هوية دينية. فقلما كانت تطأ أقدامهم المساجد وكانت نساؤهم سافرات، غير أن إصرار الأغلبية الصربية والكرواتية المسيحية على التمييز ضدهم وإبراز الاختلاف معهم أدى إلى تقوقع إقليم البوسنة وإدراك شعبها وتشبثه بالفارق الدينى ورفضهم التعايش المشترك. وقد ترتب على ذلك ما عرفناه من نزاع دموى أدى إلى استقلال البوسنة وتمزق دولة يوغوسلافيا. وفى ضوء هذه التجربة المريرة يتعين علينا أن نستخرج العبرة اللازمة للحيلولة دون الانزلاق فى هذه الهوة فى وطننا العزيز. ولاشك أن العبء الأكبر يقع فى هذا المقام على الأغلبية التى تملك القدرة على توجيه المسار نحو التعايش أو التنافر، وعدم إلقاء اللوم على الأقلية التى لا تمتلك إلا رد الفعل والتقوقع للاحتماء فى مواجهة رفض الأغلبية. وجدير بالذكر أنى كنت قد كلفت بصفتى عضوا فى المجلس القومى لحقوق الإنسان بمهمة تقصى الحقائق فى مأساة نجع حمادى وهالنى ما لمسته من شعور المواطنين الأقباط من خوف ليس فقط من سوء المعاملة بل من السير فى الطريق العام سواء لما يلقونه من سوء المعاملة والرفض الذى وصل إلى حد أن بعض النساء الأقباط يضطررن إلى اتخاذ الحجاب حرصا على حياتهن. ولا يخفى كذلك ما أصبح شائعا فى مدارسنا من إعراض المسلمين عن تحية المسيحيين ورفض التعاون معهم، بل وصل إلى علم المجلس القومى لحقوق الإنسان أن هناك من فصلوا من وظيفتهم فى القطاع الخاص بسبب الدين. وقد هالنى كذلك ما قرأته فيما نشر فى جريدة «المصرى اليوم» فى رسالة يوم 24 أكتوبر فى الصفحة الأخيرة فى مقال الكاتب بلال فضل التى تروى ما تعانيه الفتيات القبطيات من تحقير بل وبصق وعودتهن إلى بيوتهن وقد غمرهن البصاق بعد سيرهن فى الشوارع دون أن يكون لهن ملجأ يأوون إليه إلا كنيستهن. وقد لمست ذلك بنفسى فى أحياء. ما نشهده من غياب من يمثل الأقباط فى المناصب الكبرى وفى الإعلام والكتب الدراسية التى تخلو من ذكر التاريخ القبطى ونادرا ما تذكر الأسماء القبطية ليعرف التلاميذ أن هناك فى مصر أقباطا. وغنى عن البيان أنه لا يد للأقباط فى التمييز وإزاء هذا التمييز والرفض للتعايش المشترك السمح بجميع صوره ضمن الجماعة الوطنية المصرية فمن الطبيعى أن يلجأ الأقباط إلى العزلة والتكتل حول كنيستهم. ولذلك فقد أثار دهشتى ما ورد فى مقال الكاتب الكبير طارق البشرى فى صحيفتكم «الشروق» بتاريخ 24 أكتوبر من أن سياسة الكنيسة «لم تعد تقوم على دمج القبط فى الجماعة الوطنية المصرية وإنما على فرزهم ليصيروا شعبا لها بالمعنى الدنيوى المتعلق بتشكيل جماعة سياسية». ذلك لأن الدمج فى الجماعة الوطنية هو فى الحقيقة دور الشريحة الكبيرة المسلمة وليس دور الشريحة الأقل عددا التى لا تملك إلا الانطواء والانكفاء على تراثها الخاص لتأكيد هويتها، ولنا فى تجربة البوسنة خير عظة تدعونا للعمل سريعا لاحتواء هذه الفرقة دون التهرب من المسئولية وإلقاء اللوم على الآخر.