فى الوقت الذى كان فيه السلطان المملوكى «الأشرف قايتباى» على فراش المرض سأله أحد أمرائه أن يسلطن ابنه «محمد» من بعده فلم يعره قايتباى جوابا، لأنه لم يكن يشعر بما يدور حوله فقد كان فى أوقات الاحتضار الأخيرة، فاستغل كبار أمرائه وعلى رأسهم «قانصوه خمسمائة» و«كرتباى الأحمر» تلك اللحظات واجتمع رأيهم واتفقوا على سلطنة ابنه محمد الذى لم يتعد عمره أربعة عشر عاما، وكان مولد محمد سنة 887ه وكانت أمه جركسية تسمى «أصل باى» من مشتريات الأشرف قايتباى، وأرسل الأمراء إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله أبوالعز عبدالعزيز وقضاة المذاهب الأربعة فى يوم السبت السادس والعشرين من ذى القعدة سنة 901ه فخلعوا قايتباى وسلطنوا ابنه محمد مكانه، وصدَّق الجميع على ذلك، فسُمى بالسلطان الملك الناصر أبوالسعادات ناصر الدين محمد وهو الثانى والأربعون من ملوك الترك والسادس عشر من ملوك الجراكسة بمصر، وقد لُقب بالمنصور أولا ثم قرر لقبه بالناصر. ولم يلبث قايتباى أن مات فى اليوم التالى وله من العمر أربعة وثمانون سنة، قضى منها فى السلطنة أكثر من تسعة وعشرين سنة، وقد ذكر ابن إياس أن «الأشرف قايتباى» لو كان واعيا لما مكّن الأمراء من سلطنة ابنه ولا كان ذلك قصده. وقد أدرك الأمراء أنه بوجود «الناصر محمد» على رأس السلطنة سيعطى لهم الفرصة لفرض سطوتهم عليه وعلى أمور المملكة فى آن واحد نظرا لصغر سنه وما عرفوه عنه من أفعال صبيانية ولطيشه ولتهوره الذى يصل أحيانا إلى حد الجنون، حتى إن الأمير «كرتباى الأحمر» قد جعل أربعة من الحراس لملازمته ومنعه من اللعب مع الصبيان وأولاد العوام، كما خصص له مملوكا يبيت عنده كل ليلة فى القلعة، ولم يستغرق الناصر محمد وقتا حتى يبرهن على ما فيه من طيش، فكان أول ما قام به من أفعال طائشة أنه شهّر امرأة على حمار بعد أن قام بضربها ووضع حول رقبتها «جنزير الحديد»، وذكر ابن إياس «فى رجب سنة 902 ه ابتدأ الملك الناصر فى الطيشان ومخالطة الأوباش وحُملت إليه مركب صغيرة فصنع فيها حلوى وفاكهة وجبن مقلى فكان ينزل بنفسه فى المركب ويبيع كما يفعل الباعة فى الأسواق». ثم إنه أمر بعرض المساجين عليه فأمر بإطلاق سراح بعضهم، أما تعساء الحظ الذين وقعوا بين يديه وكانوا سبعة مساجين فقد أمر بقتلهم وقام بنفسه بتوسيطهم شد الشخص على خشبة وضربه بالسيف تحت سرته حتى ينقسم جسمه نصفين ثم قطع أياديهم وآذانهم وألسنتهم بيده. ومن نوادر وغرائب الملك الناصر محمد ما فعله فى التاسع والعشرين من رمضان سنة 902 ه حيث أمر بدق الطبول بالقلعة إيذانا بحلول يوم عيد الفطر فى الغد دون رؤية هلال شوال، فلما سمع الناس ذلك وتناقل الخبر بينهم خرج زين الدين زكريا قاضى القضاة الشافعى وذهب إلى القلعة مسرعا وأخبر الناصر أن العيد لا يكون إلا برؤية الهلال، فشق ذلك عليه وهمّ بعزل القاضى زين الدين، فلما دخل الليل لم يُر الهلال وجاء العيد يوم الجمعة على رغم أنفه، فلم يخرج الناصر لصلاة العيد كعادة غيره من السلاطين، أما الخليفة الذى ذهب إلى القلعة كعادته لتهنئة السلطان بالعيد فقد رفض الناصر مقابلته وأرسل إليه من يشكره على حضوره ويطالبه بالرجوع من حيث جاء. وفى شهر جمادى الآخرة سنة 903 ه أمر الناصر محمد بالنداء فى مصر والقاهرة بأن تُعلق القناديل على الحوانيت والبيوت المطلة على الشوارع، والغريب ما حدث إثر ذلك فقد كان الناصر يخرج للمشى بالقاهرة بعد العشاء وإذا رأى أحدا يمشى فى الشوارع يقوم بقطع أذنيه وأنفه ومنهم من يوسطه، أما سعيد الحظ فهو من يُضرب فقط، وكان إذا مرَّ بدكان ولم ير عليه قنديلا لا يترك مكانه حتى يغلق الدكان ويقف بنفسه على تسميره، ومن غريب أفعاله أيضا ما حدث فى المحرم سنة 904 ه عندما مرّ من بين القصرين بعد العشاء فرأى شخصا خارجا من الحمام وماشيا فى السوق فقال له أعوان السوء : «إن هذا الرجل سكران»، فلم يتحقق من ذلك فشطره إلى نصفين. واستغل المماليك صغر سن الناصر وثاروا عليه وطلبوا منه النفقة وحاصروه بالقلعة فى ذى الحجة سنة 903ه فما كان منه إلا أن وعدهم بالإنفاق عليهم بعد مضى شهر، وأخذ الناصر محمد فى جمع الأموال بكل جشع ونهم، وحدد على جميع طوائف الشعب مبالغ بعينها يتم توريدها له حتى أنه لم يدع أحدا لم يفرض عليه الأموال، وكان المشرف على جمع كل الأموال المطلوبة وتحصيلها خاله الأمير «قانصوه» الذى جلس فى داره مع أعوانه ناصر الدين الصفدى وكيل بيت المال وإبراهيم المهاجرى إمام الأمير قانصوه وقانبك دواداره الذى يحمل الدواة وينقل الرسائل وأعدوا أدوات التعذيب وأحضروا المعاصير خشبتان يوضع الشخص بينهما والكسارات ووضعوا خوذ الحديد على النار، وأرسلوا رسلهم فى طلب الناس والأموال، وعلى أثر ذلك اختفى قاضى القضاة المالكى ابن تقى من بيته وأيضا قاضى القضاة الحنبلى الشهاب الشيشينى، وامتنع القاضى شهاب الدين أحمد ناظر الجيش عن دفع ما قرر عليه فبطح على الأرض ليُضرب، وكذلك ناظر الخاص ابن الصابونى، وكل من رفض من الأعيان والمشاهير أداء ما فرض عليه من أموال فعل بهم ذلك، وجمعت الأموال التى حددها الناصر محمد من الناس بالحبس والضرب والترسيم الحَجْر والإقامة الجبرية ولما اكتملت الأموال عنده وزع النفقة على المماليك. والغريب أن الناصر لم يرع للنساء أعراضا ولا للبيوت حرمات، فيحكى ابن إياس أن الناصر دخل إلى حارة الروم وقام بالهجوم ليلا على دار إبراهيم مستوفى ديوانه الخاص وقبض على ابنه أبى البقاء وهمّ بتوثيقه إلا أن والده ألقى نفسه عليه وافتداه بألف دينار، وانتشر الكلام بين الناس أن الناصر محمد قام بالهجوم على البيت عندما نمى إلى سمعه من رفقاء السوء جمال زوجة أبى البقاء، ثم زاد الناصر فى طيشه وولعه بالنساء فكان إذا رأى امرأة جميلة فى بيتها يتسلق البيت ويدخله من سطحه أو نافذته ويضرب زوجها ويهجم عليها ويأخذها غصبا. وذكر ابن العماد فى «شذرات الذهب» أن والدة الناصر هيأت له جارية جميلة جدا فى بيت أعدته له فدخل الناصر على الجارية وما لبث أن سمعوا صراخا فأرادوا الهجوم عليه فلم يتمكنوا من ذلك، وما لبث أن خرج إليهم بعد أن سلخها وهى حية. وجاءت نهاية الناصر عندما خرج للنزهة مع أولاد عمه «جانم وجانى بك» وجماعة من خدامه وظل ثلاثة أيام فى لهو وخلاعة، وعندما حان موعد توزيع رواتب الجند فى يوم الأربعاء خامس عشر ربيع الأول سنة 904 ه رجع الناصر من نزهته وفى طريق عودته مر على الطالبية وكان الأمير «طومان باى» فى طريقه إلى محاربة قادة الفتنة فى البحيرة فقدّم له جفنة فيها لبن فتناولها الناصر وهو فوق فرسه وما هى إلا لحظات حتى خرج عليه خمسون مملوكا فقتلوه وقتلوا معه أولاد عمه، فظلت جثته ملقاة على الأرض حتى جاء الليل فحمله الناس وأدخلوه فى مسجد وألقوه على الحصير ورأسه على وشك الانفصال عن جثته، ووصل الخبر إلى خاله «قانصوه» بالقاهرة فأرسل ثلاثة نعوش فى صباح اليوم التالى فأحضروا الجثث الثلاث إلى بيت «الأشرف قايتباى» وغسلوها وأخرجوا النعوش الثلاثة ولم يكن معهم أحد غير الحمالين فأتوا بهم إلى باب الوزير فلم يجدوا من يصلى عليهم حتى أجبروا بعض الفقهاء على الصلاة عليه، ثم دفنوه عند تربة الأشرف قايتباى، ولم يأسف على موت الناصر محمد أحد من الناس من شدة ظلمه وجنونه وطيشه وانتهاكه لحرمات الناس وقتله للأبرياء.