وقعت مدينة الإسكندرية ضحية للأوضاع السياسية والعسكرية القائمة فى النصف الثانى من القرن الرابع عشر الميلادى الثامن الهجرى، وللأطماع الصليبية فى الشرق من جهة وللخلافات القائمة بين أمراء الدولة المملوكية من جهة أخرى، فقد تعرضت المدينة لهجوم صليبى قبرصى استغرق ثلاثة أيام، أحدث بالمدينة تدميرا كبيرا، وأريقت دماء الضحايا على أبوابها، وتراكمت الجثث فى شوارعها، وتوزعت الأشلاء بين أزقتها. لقد بدأت تلك الأحداث بمجىء بطرس ملك قبرص على رأس قوات أوروبية لغزو الإسكندرية فى أكتوبر 1365 م المحرم 767 ه تصاحبه سبعون قطعة بحرية وثلاثون ألف مقاتل من البندقية وجنوة ورودس وفرنسا وقبرص، جاء بطرس فى السنة الثالثة من حكم السلطان الملك الأشرف زين الدين أبو المعالى شعبان ابن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون والذى تولى أمور السلطنة سنة 764 ه 1362م ولم يتعد عمره عشر سنوات بعد أن اتفق الأمراء وعلى رأسهم الأتابكى يلبغا العمرى على خلع ابن عمه السلطان الملك المنصور محمد «للمماجنة ولأنه يفسق فى حريم الناس ويخل فى الصلوات ويجلس على كرسى الملك جُنبا وأشياء غير ذلك»، كما ذكر ابن تغرى بردى فى «النجوم الزاهرة»، ولم يكن للأشرف شعبان من أمور السلطنة والملك إلا الاسم فقط، فقد كان يلبغا العمرى هو المدبر والمتحكم فى الأمور العامة للدولة. وبينما السلطان الملك الأشرف شعبان فى نزهة بسرياقوس، والأتابكى يلبغا العمرى فى نزهة بوادى العباسة إذا بأنباء الهجوم الصليبى تصلهما يوم 23 من المحرم سنة 767 ه، والغريب أن يلبغا لم يتحرك مباشرة عندما سمع بخبر الهجوم بل تحرك ولكن إلى بيته بالقاهرة وتبعه السلطان إلى القلعة فى يوم 24 من المحرم، فقد ظن يلبغا أن تلك الأخبار ما هى إلا مكيدة من الأمير طيبغا الطويل أمير سلاح، وكانت الخلافات وعقارب الفتن قد دبت بينهما كما ذكر ابن إياس فى «بدائع الزهور» وكان الأمير طيبغا طويلا والأمير يلبغا قصيرا، فكان العوام يقولون: «يا طويل خذ حذرك من القصير». لذلك أصبحت الإسكندرية ضحية للخلاف بين الطويل والقصير!! والغريب أيضا أن أنباء قد وصلت إلى أهل الإسكندرية عن احتمال غزو صليبى وذلك قبل الغزو بعدة أشهر، فكتب بذلك الأمير صلاح الدين خليل بن عرام متولى الثغر إلى السلطان والأمير يلبغا فلم يكن منهما اهتمام بأمر الغزو كما ذكر المقريزى فى «السلوك». وجاء بطرس بقواته فى الوقت الذى كان فيه ابن عرام مسافرا للحج وأناب مكانه الأمير جنغرا، وقد ظن الجميع أن السفن التى ظهرت أمامهم هى سفن البنادقة الذين يأتون للتجارة فى ذلك الحين، ولم يمض وقت طويل حتى اكتشف الجميع أن هناك غزوا للمدينة، فتأهب الناس لقتالهم، وكان الثغر قد خلا من المجاهدين وأفقر من الحرس وحماة الدين، كما ذكر الحسن بن حبيب فى «تذكرة النبيه»، فأغلقت الأبواب ووقفت الحراسة على الأسوار، وخرجت القوات لملاقاة الجيش الصليبى صبيحة يوم الخميس 21 من المحرم، فلم يتحرك أحد من الصليبيين، وعندما جاء عربان البحيرة إلى المنار وانضم إليهم الأهالى نزل إليهم الملك بطرس بقواته بعدما اكتشف عدم قدرة المدينة على القتال، فحمل عليهم حملة منكرة وركب الفرنج أقفيتهم بالسيف، ونزل بقيتهم إلى البر فملكوه بغير مانع وقدموا مراكبهم إلى الأسوار فاستشهد خلق من المسلمين كما ذكر المقريزى، ويعتصر محمد بن القاسم النويرى ألما وحزنا على الإسكندرية حيث شاهد بنفسه ما وقع بها من قتل وتدمير وتشريد وأورد ذلك فى كتابه «الإلمام» بقوله: «فما أسرع ما أخذ الثغر، وما أعجل ما انكوى قلوب أهله بالجمر، ظفرت به الفرنج فى اليوم الذى نزلوا فيه من مراكبهم إلى البر، ولا أمسك بالحصار يومين بل أخذ من المسلمين فى ساعتين، وكان خروج أهل الإسكندرية من الأبواب من أعجب العجائب وذلك لازدحامهم وهلاك بعضهم، فخرج من الأبواب ألوف مؤلفة فامتلأت منهم الغيطان والبلدان ونهب بعضهم العربان». أما الأمير جنغرا الذى عجز عن صد الهجوم الصليبى، فلم يجد ما يقوم به سوى أنه أخذ ما كان فى بيت المال وقاد معه خمسين تاجرا من تجار الفرنج كانوا مسجونين عنده ومضى وعامة الناس إلى دمنهور، ودخل بطرس المدينة يوم الجمعة 22 من المحرم وشق المدينة راكبا، فأكثر الفرنج من الأسر والقتل والسلب وأحرقوا المساجد والزوايا والحارات والأسواق والفنادق، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام، وفى يوم الأحد خرجوا بالأسرى والغنائم إلى مراكبهم ورحلوا إلى بلادهم ومعهم خمسة آلاف أسير، أما السلطان الذى رجع إلى القلعة خائفا على نفسه وملكه فقد نادى فى القاهرة للعسكر» بالنفير عامة وكل من تأخر حل دمه وماله» بعدما ثبت صحة الخبر، فخرج الناس والعسكر أفواجا لنجدة الإسكندرية، ومع معاناة الإسكندرية من تأخر السلطان فى إرسال النجدة إليها كان النيل فى موسم زيادته فتعطل الطريق أمام الجيش، وعندما وصل السلطان بجيشه إلى «الطرانة بالبحيرة»، جاءته الأنباء برحيل الصليبيين عن الإسكندرية، فرجع إلى القاهرة وقرر ابن عرام نائبا على الإسكندرية مرة أخرى، وأمر بدفن القتلى وأمده يلبغا بالأموال لعمارة ما خرب منها، وقبض يلبغا على جميع من فى مصر والشام من الفرنج والبطاركة وألزمهم بدفع نصف أموالهم إلى السلطان لتخليص الأسرى من يد الفرنج، وقرر السلطان فى شهر ربيع الأول سفر بطرك النصارى إلى قبرص للنظر فى تخليص أسرى الإسكندرية كما ذكر ابن إياس، ولم تمض شهور قليلة حتى قدمت بعض السفن الأوروبية المحملة بالبضائع للتجارة إلى جانب الرسل الذين جاءوا مع السفن لتجديد الصلح والعمل مع السلطان لتخليص الأسرى من ملك قبرص بعدما شعرت تلك الدول أن ملك قبرص سيورطها فى حروبه مع الدولة المملوكية مما سيؤثر على حركة التجارة بينهم وبين المماليك، وقد ذكر ابن إياس فى حوادث شهر ذى الحجة سنة 767 ه وصول رسل ملك جنوة برسالة تعلن تبرؤه مما فعله ملك قبرص وبصحبتهم ستين أسيرا كان ملك قبرص قد أهداهم لملك جنوة. وكان لذلك الهجوم الذى تعرضت له الإسكندرية تذكرة للسلطان وأمرائه للاهتمام بتجهيز القوات المملوكية، فأمر يلبغا بصنع السفن البحرية اللازمة لغزو الفرنج حتى أن بعث إلى بلاد الشام كما ذكر ابن تغرى بردى، بإخراج النجارين وكل من يمسك منشارا بيده ولا يترك واحدا منهم إلى جبل شغلان بالقرب من أنطاكية ويقطعون الأخشاب ويحملونها إلى مصر، واكتملت عمارة السفن البحرية فى شهر ربيع الأول سنة 768 ه كما ذكر المقريزى، وعدتها مائة قطعة وجهزت بالرجال والأسلحة استعدادا للغزو، واستمرت المحاولات المملوكية للانتقام من الغزو القبرصى للإسكندرية، وتعاقب على حكم مصر أكثر من عشرة سلاطين حتى تولى السلطان الملك الأشرف برسباى أمور السلطنة سنة 825 ه وبعد أربع سنوات من حكمه وتحديدا فى يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة 829 ه ورد الخبر على السلطان بأخذ قبرص وأسر ملكها جينوس بن جاك فكاد يطير فرحا ورآه المؤرخ ابن تغرى بردى وهو يبكى من شدة الفرح حتى بكى الناس لبكائه.