فى بدايات القرن السادس عشر الميلادى العاشر الهجرى فى زمن السلطان قانصوه الغورى كانت مصر تمر بأزمة اقتصادية طاحنة كما كانت محاصرة بأخطار عسكرية من الشمال والشرق والجنوب، فعلاوة على الخطر البرتغالى فى الجنوب فى مياه البحر الأحمر، كانت الدول المحيطة بدولة المماليك تتربص بها، وتلمح فيها ملامح الشيخوخة وتسعى للانقضاض عليها فى كل لحظة، ففى الشرق حيث العراق وإيران كانت الدولة الصفوية تتطلع إلى التوسع فى الشام على حساب دولة المماليك، أما فى الشمال فقد كانت الدولة العثمانية الفتية تقف متربصة بدولة المماليك الجراكسة، تنتظر اللحظة التى تستطيع فيها أن تثأر للهزيمة التى لحقت بها فى عهد السلطان قايتباى. وبمرور الأيام كانت الحلقة تضيق على مصر وعلى حكامها من المماليك الجراكسة، فالأوضاع الاقتصادية فى انهيار والأخطار الخارجية تتزايد، والحصار الاقتصادى والعسكرى يخنق البلاد فيلجأ السلطان إلى زيادة الضرائب. ويصف المؤرخ ابن إياس المصرى حالة الناس فى بيتين من الشعر يقول فيهما: فى دولة الغورى رأينا العجب وقد حملنا فوق ما لا نطيق وقد كفى فى عامنا ما جرى من قلة الأمن وقطع الطريق لكن تلك الظروف الصعبة التى مرت بها البلاد لم تحل دون قيام الدولة بواجبها فى حماية الحجاج المسيحيين المتوجهين إلى كنيسة القيامة بالقدس، خصوصا أولئك الرهبان والنساك المنقطعين فى الأديرة المنتشرة فى صحارى مصر، أو الحجاج القادمين من خارج البلاد والمتوجهين عبر مصر لزيارة كنيسة القيامة فى القدس التى كانت فى ذلك الوقت جزءا من دولة المماليك. إن الوثائق الرسمية التى تحتفظ بها إلى الآن بعض الكنائس والأديرة تكشف عن حرص دولة المماليك على حماية ممارسة الشعائر الدينية، وتوفير الأمان للعباد ورجال الدين. فبين الحين والحين كانت تصدر عن سلاطين دولة المماليك وأمرائها الكبار المراسيم الموجهة إلى نوابهم فى أرجاء الدولة، وإلى كبار موظفيهم، والتى تحمل الأوامر والتنبيهات الصارمة بحماية دور العبادة وتأمين طرق الزيارة وإعفاء الأديرة والكنائس والقائمين فيها وزوارها من الضرائب والرسوم، وربما يشير تكرار صدور هذه الأوامر من جانب السلاطين والأمراء إلى تكرار خرقها من جانب موظفى الدولة ومن جانب الرعايا أحيانا. ومن هذه الوثائق الرسمية نقدم اليوم أمرا أصدره الأمير طومان باى الذى كان يشغل منصب الدوادار الكبير فى عصر عمه السلطان قانصوه الغورى، والذى خلفه على عرش مصر بعد هزيمة الغورى فى مرج دابق، والأمر صادر فى سنة 914 هجرية وموجه إلى رجال الدولة فى القدس وغزة والرملة يأمرهم بتيسير زيارة الرهبان لكنيسة القيامة بالقدس وعدم إلزامهم بدفع أى رسوم عند المرور بالموانئ والمدن الفلسطينية... وقد جاء فى هذه الوثيقة: «بسم الله الرحمن الرحيم أخوهم طومان باى الملكى الأشرفى أعز الله أنصار المقرات الكريمة وضاعف وأدام نعمة الحنابات والمجالس العالية والسامية النواب والقضاة والحجاب والحكام وولاة الأمور بالقدس الشريف وغزة المحروسة والرملة وسينا وحيفا ويافا وجدد مسرتهم، نوضح لعلومهم أن من المشمولين بنظرنا السعيد جماعة من الرهبان بدير طور سينا وغيرهم من الرهبان والرهبانات الملكنيين واليعاقبة، وقد تمثلوا لدينا، وأنهوا إلينا، أن جرت عادتهم ألا يلزموا الرهبان النصارى والنصرانيات اليعاقبة والملكنيين بموجب ولا بخفر ولا بظلم عند دخولهم لزيارة بيت المقدس، ولا يحدث عليهم حادثا، ومنع من يتعرض إليهم بسبب ذلك، أو فى كنيستهم وفى تربتهم التى يدفنوا بها، ولا يتعرض أحد إلى موتاهم ولا أثوابهم، ومسامحة الرهبان والرهبانات من طايفة الروم والقبط من الموجب بالأعمال المذكورة...» إن هذه الوثيقة هى واحدة من ضمن عشرات الوثائق التى يحتفظ بها دير سانت كاترين بشبه جزيرة سيناء فى مكتبته التى تحفل بالوثائق والمخطوطات النادرة، ودير سانت كاترين فى شبه جزيرة سيناء من الأديرة الأثرية القديمة فى مصر، يرجع تاريخ بناء الدير إلى زمن الاحتلال البيزنطى، وعلى وجه التحديد عهد الإمبراطور البيزنطى جستنيان الذى حكم ما بين سنتى 527 و565 ميلادية، وقد شيد الدير فى موقع يعرف باسم العليقة فيما بين سنتى 540 و545 فى أحد المواقع المقدسة بشبه جزيرة سيناء، وينسب الدير إلى القديسة الشهيدة كاترينه السكندرية، حيث دفن رفات القديسة بالدير، وقد سمى الدير بهذا الاسم فى القرن الثامن الميلادى على الأرجح، ويعيش داخل الدير الذى صممت عمارته على طراز الحصون القديمة مجموعة من الرهبان الروم الأرثوذكس، ويحتفظ الدير بمجموعة من الأيقونات النادرة، تعد من أهم المجموعات فى العالم، كذلك يضم الدير مكتبة كبيرة تحوى ما يزيد على 3000 مخطوطة مدونة بلغات مختلفة منها السريانية والحبشية والعربية والقبطية واليونانية واللاتينية وعدد من لغات شرق أوروبا القديمة. وقد تجمعت هذه المخطوطات عن طريق الإهداء أو النسخ من الرهبان أو من زوار الدير، وتتنوع موضوعات هذه المخطوطات تنوعا كبيرا ما بين اللاهوت والفلسفة والموسيقى والتاريخ والرياضيات والفلك والجغرافية وعلوم اللغة والطب والقانون. إلى جانب هذه المخطوطات تحتفظ مكتبة الدير بحوالى 1700 وثيقة باللغة العربية والبعض باللغة التركية، وهى وثائق متنوعة منها ما يتعلق بمعاملات الرهبان والبدو القاطنين حول الدير ومنها ما يتعلق بأنشطة الدير وبعضها مجموعة من الوثائق الرسمية للدولة والتى صدرت فى عصور مختلفة وهى مناشير ومراسيم وفرمانات صادرة من الخلفاء والسلاطين والأمراء والباشوات تقرر حقوق رهبان الدير وتكشف عن مسئولية الدولة الدائمة عن حمايته خصوصا أنه يقع فى منطقة نائية... ومن بين هذه المجموعة تلك الوثيقة التى استعرضنا أجزاء من نصها وهى تبين امتداد مسئولية الدولة إلى رعاياها من مختلف الطوائف الدينية وحرصها على حماية حقوقهم خصوصا ما يتعلق منها بالعبادة وممارسة الشعائر الدينية.