قبل 20 عاماً، وبعد فترة وجيزة من مجىء إدارة جورج بوش الأب عندما كان «سايبر بانك» (cyber punk) (نوع من الخيال العلمى الذى يعتمد على التقدم التكنولوجى) مجرد مفهوم جديد، ولم تكن تنتمى إليه سوى ثلاثة أفلام فقط، كلها جيدة، عن حرب النجوم (star wars)، كان «ستيم بانك» (steam punk) (قصص عصر البخار) مصطلحا صيغ لتوه بالفعل لم يكن أحد يتوقع أنه فى بداية القرن الحادى والعشرين سوف يستوحى عددا من أكثر أعمال الخيال العلمى الحديثة إمتاعا ومهارة، من كتابات فرنسى توفى قبل قرن من الزمن. وكان الثابت أن إرث هذا الرجل لا يزيد عن كونه روايات مغامرات للأولاد تفتقر إلى المهارة. ولكن عملية إعادة اكتشاف هذه العبقرية الفرنسية جرت على قدم وساق منذ عقدين. واليوم استعادت مكانة هذا الرجل مجدها السابق كاملا تقريبا. ربما تكون قد خمنت أن ذلك الكاتب ليس إلا جول فيرن (Jules Verne) الذى يعتبر واحدا من اثنين من آباء الخيال العلمى المعترف بهم عامة الأب الثانى هو إتش جى ويلز. وخلال السنوات الأخيرة، ظهر فيض من العناوين الجديدة لفيرن، بما فى ذلك إعادة ترجمة أعماله الكلاسيكية المعروفة (الجزيرة الغامضة) وظهور طبعات إنجليزية لأول مرة من رواياته الأقل شهرة (الأخوان كيب)، بل تم تسليط الأضواء على مخطوطاته (باريس فى القرن الحادى والعشرين) التى ظلت إلى وقت قريب مفقودة. وقد شجع هذا الكم الهائل من أعمال الباحثين والنقاد على إعادة تقييم الحياة المهنية للكاتب، فى الوقت الذى حقق فيه المتعة للقراء العاديين والهواة. يجب أن ينسب الفضل فى بدء عملية إعادة تقييم العالم المتحدث بالإنجليزية لفيرن إلى والتر جميس ميللر، البروفيسور فى جامعة نيويورك الذى بدأت جهوده فى هذا الصدد قبل زمن بعيد، فى عام 1965، عندما كتب مقالا بعنوان (جولز فيرن فى أمريكا: مقدمة المترجم). وكشف هذا المقال السبب الرئيسى وراء إفساد أعمال فيرن، وهو «المترجمون من غير ذوى الخبرة». وبالإضافة إلى الأخطاء التى لا تغتفر فى ترجمات أعمال فيرن إلى الإنجليزية، ابتليت هذه الترجمات أيضا بالحذف والإضافة من دون حق، وهو ما أدى إلى تبسيط تعقيدات النص وقضاياه الخلافية. ولم يكن غريبا أن بدأ الناشرون فى تسويق كتبه باعتبارها مجرد روايات للمغامرات مكتوبة للأولاد وباعتراف الجميع، كانت الحلقة الأخيرة فيما يخص إحياء تراث جول فيرن، واحدة من أبسط أعماله الأخيرة «قلعة فى الكرابات» التى كتبها عام 1893، وعادة ما تقدم فى الإنجليزية تحت عنون «القلعة الكاراباتية». لكنها عندما بعثت من جديد، قدمت تحت عنوان «القلعة الواقعة فى ترانسلفانيا» ربما لأغراض تجارية تتعلق بالتركيز على إغراء المولعين بقصص الأشباح. وقبل الغوص فى رواية «القلعة فى بنسلفانيا» يجب الإشادة بالترجمة الجديدة الممتازة للرواية التى أنجزتها المترجمة الخبيرة والموهوبة تشارلوت مانديل. تبدأ الكلمة المكتوبة على ظهر غلاف نسخة «القلعة الكاراباتية» الموجودة عندى والصادرة عن دار إيس وتعود إلى عام 1963 بهذه الجملة: «هذه القصة ليست خيالية: بل أنها ببساطة قصة رومانسية، ولن يفكر أحد فى تصنيفها باعتبارها أسطورة». وتشير مانديل إلى أن «هذه القصة ليست خيالية؛ إنها رومانسية فحسب». وإلى هنا، يقترب هذان التعليقان كثيرا من بعضهما البعض. لكن بعد ذلك، تستكثر نسخة عام 1963 أن تقدم لنا أكثر من سطرين بالكاد، قبل البدء فى تسلسل الأحداث. غير أن مانديل تبدأ بملاحظة ما بعد حداثية: «نعيش فى عصر يمكن لأى شىء أن يحدث فيه بل يمكن للمرء تقريبا أن يقول إنه عصر يحدث فيه كل شىء. ويلى ذلك إحياء واحدة من أروع مقدمات فيرن الزاخرة بالمعلومات، حول أسطورة ترانسلفانيا، قبل القفز إلى النقطة التى تبدأ عندها أحداث زمن الرواية الحقيقى. وتبلغ مساحة المقدمة صفحة واحدة تقريبا. ويستمر هذا الارتقاء الخلاق فى النثر، والإخلاص للنص الأصلى طوال الرواية، بالغا مستوى ممتع بالنسبة للقارئ. والآن، ماذا عن حكاية فيرن نفسها؟ نحن فى قرية جبلية صغيرة تسمى فيرتس، حيث توجد قلعة مهجورة منذ 20 عاما. ولا يزور أحد هذا المكان الشائخ والمتماسك فى الوقت نفسه، بفعل الخوف من الأشباح، واحتراما لمالكها الأخير، البارون رادولف، بارون دو جورتز، الذى غادر المنطقة تحت ظروف غامضة. ثم تظهر بقع دخان مضيئة آتية من القلعة، مما يثير الرعب فى القرية. ومن الواضح أن شبحا استوطن المكان! ويتطوع أحد المتشككين من سكان القرية، وهو الشاب الوسيم نيك ديك، لبحث الأمر. ويستميل الدكتور باتاك كى يشاركه فى البحث. وبالرغم من أن باتاك كان فى السابق ملحدا جريئا (على الأقل فى الحوار مع الآخرين)، فإنه يبدو جبانا فى مواجهة المجهول. لكن الغرور يمنعه من التراجع. وفى القلعة تظهر تجليات غير طبيعية، ويصدم نيك بحيث يفقد الإحساس، فيضطر الرجلان إلى أن يعودا أدراجهما. وعند تلك النقطة، يجرى فيرن نقلة جانبية غير متوقعة. ذلك أنه بمحض الصدفة يصل زائر، هو الكونت فرانز دو تيليك، إلى القرية، مصطحبا خدمه المخلصين. ثم تحكى علينا قصة عودة فرانز. وتتضمن هذه القصة علاقة حب لم تكتمل مع إحدى مغنيات الأوبرا، تم ترويعها حتى الموت بالمعنى الحرفى للكلمة على أيدى البارون رادولف دو جورتز المروع وتابعه الشرير، أورفانيك الذى باع نفسه للشيطان! وبالطبع عندما يعلم فرانز الحقيقة، يأخذ عهدا على نفسه بأن يحل لغز القلعة، أو أن يموت دون ذلك. ويكتشف أن جورتز وأورفانيك يختبئان فى القلعة فى الحقيقة لم يتجاوز الشر الذى كانا يرتكباه مجرد إقامة حفلات الرعب البائسة وتجربة بعض الاختراعات الكهربائية المتطورة على سكان البلدة الذين ينتمون إلى العصور الوسطى قبل أن يجرى نسف المكان برمته فى عمل انتحارى قام به جورتز. ولم تكن تلك الحبكة البسيطة، التى يمكن أن يتوقعها أكثر القراء سذاجة فى عام 2010، مفاجأة كبيرة حتى بالنسبة لرواية «قلعة أوترانتو» وهى من الروايات القوطية التى أثارت إعجاب الكثيرين فى 1893. لكن قصة فيرن هذه لا تزال تلزم الناس بقراءتها نتيجة لأسباب عدة. يتمثل أول هذه الأسباب فى براعة الكاتب. فعقب تأليفه العديد من الكتب، صار فيرن الذى كتب الرواية فى عمر الخامسة والستين خبيرا فى سرعة تسلسل الأحداث ورسم الشخصيات وصنع المشاهد. وبالرغم من أن القرويين فى رواية فيرن كانوا صارمين ونفعيين، إلا أنهم يتميزون بنزعة فكاهة لطيفة. ويقدم فيرن ما يكفى من التفاصيل المتعلقة بتقاليد ماضية ثقافية وعلمية وجيوسياسية وتاريخية ليجعل كل شىء معقولا وملموسا. علاوة على ذلك، نجد فى القصة مظهرا حقيقيّا لحب فيرن للعالم الطبيعى هنا، وذلك من خلال وصفة الخصب للغابات المحيطة بفيرتس. كما يمكن للقارئ أن يستمتع بالتناقضات المرسومة بمهارة فيما يخص شخصية أبطال القصة الثلاثة. ويعبر نيك ديك والدكتور باتاك عن الفلاحين السذج والمضحكين لكنهم مخلصون فى الوقت نفسه، وهما يمثلان تعبيرين عن البقايا الحية لعصر زائل. ويعبر فرانز وخادمه عن التطور المدينى، ورغم أنه أكثر حكمة، لكنه لا يزال محدودا. أما جورتز أوفانيك، فهما باحثان محكوم عليهما بالفشل، يستخدمان العلم من أجل الوقوف على المعرفة الخافية. ويقومان بتطوير الحضارة، حتى لو كان ذلك استنادا إلى دوافع دنيئة وأنانية. ويقدم التفاعل بين هذه النماذج الفكرية الثلاثة وفرة من التعقيد. وتعتبر معالجة فيرن لعلاقة الحب غريبة ومحيرة بالنسبة لأسلوبه المعروف. وترجح ابنة أخ فيرن فى سيرة حياته التى كتبتها، وقوعه فى علاقة حب سرية فى وقت قريب من وقت كتابة الرواية. لكن أيا كان الدافع المرتبط بحياة فيرن الواقعية، فإن القصة تعتبر بطريقة مدهشة إرهاصة لرواية (شبح الأوبرا) التى لم تكن قد كتبت بعد. غير أن الجانب الجوهرى المتعلق بالخيال العلمى فى هذا الكتاب يكمن فيما ورد فيه من صراع بين الثقافات. ذلك أن فكرة القوة الخارجية الفائقة التى تشوش على عزلة إحدى الجيوب المتأخرة والآيلة إلى الزوال تمثل قضية أساسيّة من قضايا الخيال العلمى. انظر إلى رواية صامويل ديلانى التى تعتبر أفضل مثال على نموذج الكتابة لديه « نحن نسير فوق خط دقيق باستخدام قوة غريبة». وفى النهاية، تقف «القلعة فى ترانسلفانيا» مثالا على حقيقة فيرن فى صورتها الأكثر إمتاعا وتعليما، مكتشفة الواقع الجدير بالملاحظة حول التزامن بين صعود وهبوط التكنولوجيا.