لابد من القول إن اليمين الإسرائيلى كان على حق فى موقفه إزاء خطة الانفصال عن غزة التى جرى تنفيذها فى سنة 2005، وذلك فى وقت كانت إسرائيل خلاله تعيش نشوة ذلك الانفصال، وكاننت وسائل الإعلام تغدق المديح على تلك الخطة. إن ما يتبين الآن هو أن نبوءات الغضب، التى أطلقها اليمين فى ذلك الوقت، والتى جرى التعامل معها باعتبارها هستيرية وغير صحيحة، كانت نبوءات دقيقة تماما. وقد برهن انتصار حركة «حماس» فى الانتخابات الفلسطينية «سنة 2006»، وسيطرة هذه الحركة على غزة «سنة 2007»، إلى أى مدى كان اليمين القومى فى إسرائيل على حق. فى الوقت نفسه، فإن هذا اليمين ارتكب خطأ، ذلك بأنه على الرغم من فهمه جيدا المخاطر الكامنة فى الانسحاب الأحادى الجانب من غزة، فإنه لم يفهم قط ضرورة هذا الانسحاب بكلمات أخرى، فإن اليمين الإسرائيلى تنبأ بالمستقبل القريب لكنه لم يتنبأ بالمستقبل البعيد، وبينما رأى التفصيلات المتعلقة بالمشكلة العسكرية، إلا أنه كان عمى عن التهديد الاستراتيجى الحقيقى. إن اليمين الإسرائيلى لم يفهم قبل خمسة أعوام ما يرفض أن يفهمه الآن أيضا، وهو أن جرثومة الاحتلال أصبحت جرثومة فتاكة. كانت خطة الانفصال عن غزة ملأى بالعيوب، ذلك بأنها لم توجد وضعا فى غزة من شأنه أن يسفر عن نهاية الاحتلال والاعتراف بذلك من طرف الأممالمتحدة، ولم تكن مقرونة بخطة مارشال دولية لإنعاش غزة وتعزيز قوة المعتدلين فيها، ولم تعقبها سياسة ردع قاسية تمنع تحول غزة إلى قاعدة صواريخ تهدد تل أبيب، ولم تمنح إسرائيل أرصدة سياسية يمكن أن تصمد طويلا. مع ذلك، فإن قوة خطة الانفصال تبقى كامنة فى كونها أول تجربة جريئة من نوعها لمواجهة جرثومة الاحتلال الفاتكة، ولذا، فإن المنطق الأساسى الذى كان وراءها لا يزال سارى المفعول حتى الآن. إن منطق الانفصال فحواه ما يلى: يقع على عاتق إسرائيل واجب مصيرى وأخلاقى هو إنهاء الاحتلال، ونظرا إلى عدم وجود شريك فلسطينى، فإنه يتعين عليها أن تتخذ خطوات محدودة ومحسوبة لإنهائه على مراحل. صحيح أنه لا توجد احتمالات للتوصل إلى سلام كامل فى المستقبل المنظور، لكن لا فائدة ترجى من استمرار الوضع القائم. ولذا، على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة بيديها، وأن تعمل بحكمة على رسم حدود ثابتة بينها وبين فلسطين. وبهذه الطريقة فقط يمكنها أن تضمن هويتها وشرعيتها كدولة يهودية وديمقراطية، وأن تحول النزاع الإسرائيلى الفلسطينى إلى نزاع يمكن تحمله وإنهاؤه فى نهاية الأمر. إن الصورة، بعد مرور خمسة أعوام على الانفصال، تبدو واضحة للغاية: خطة الانفصال عن غزة فى سنة 2005 كانت إشكالية، لكن استراتيجيا الانفصال كانت ولا تزال ضرورية. أما العبرة من فشل خطة الانفصال رقم 1 فهى أنه يجب تنفيذ خطة الانفصال رقم 2 بصورة مغايرة. لا يجوز الانسحاب إلى خطوط 1967، أو الانسحاب من دون تأييد دولى وتفاهمات هادئة مع معتدلين فلسطينيين، كما أنه لا يجوز الانسحاب من دون توفير رد حقيقى على تهديد الصواريخ. لكن فى نهاية الأمر لا يوجد خيار آخر. إن الانفصال خطر، لكنه أقل خطرا من أى بديل آخر.